السبت، 24 أكتوبر 2015

عاشوراء


تجلس في ليلة عاشوراء مع كبار السن في العائلة لتستمع لأحاديثهم و قصصهم في أحد منازل بنغازي و الذي إن قُطع التيار الكهربائي عنه فهو نائرٌ في هذه الليلة بنور لمة الأهل و اجتماعهم , و بينما أنت منصتٌ لحديثهم تأخذ الذكريات أفكارك و تعود بك لزمن الطفولة , عندما كنت مرسولاً لطبق الحمص و الفوصل , عندما كنت تعود في مثل هذا اليوم من المدرسة منهكاً في يوم شتويٍ ماطر فترمي حقيبتك ثم تبدأ بماشرة مهامك كسفيرٍ للنوايا الحسنة بهذا الطبق , فتحمل الطبق الذي تسلمه لك أمك و تذهب به لجارتكم فلانة , تقرع الباب و تقف و عندما يسأل المنادي من المنزل :" من ؟" تجيب ببراءة الطفولة :" أنا" , تفتح الجارة و تسلمها الطبق و معه الرسالة المحمولة :" تسلم عليك أمي و تقوللكم كل سنة و انتوا طيبين " , ثم تقف منتظراً كما أمرتك جارتكم حتى تأتيك بطبقهم , يمنعك حياء الأطفال أحياناً من الدخول و من النظر لما بداخل المنزل أحياناً أخرى , تأخذ الطبق و تعود به في رحلة العودة إلى منزلكم تلتفت يميناً و يساراً لتتأكد بأن الشارع خالٍ من المارة ثم تدك إصبعك بالطبق لتتذوق بعض ما فيه قبل أن تدخل به إلى المنزل , ثم تعيد كل ما فعلته سابقاً مع كل جارة , و في كل مرة تتذوق من طبق الجارة فرغم أن الفول واحد و الحمص واحد و لكن النكهة تختلف من بيتٍ لبيت , و تختلف طريقة التحضير من عائلة إلى عائلة حسب أصول هذه العائلة , فهذه تسلقه و هذه تطبخه , تعطيك إحدى جارتكم طبق فتنظر له بنية التذوق فتجده طبق "بليلة" فتحل الفرحة بقلبك لأن أمك الدرناوية لا تصنع هذا الطبق كعادة الدراونة .
تعود للغرفة الحالية في الزمن الحالي تنظر لكل الأقرباء و على وجهك ابتسامة فرح بسبب الذكريات , تجد بأن الكبار ما زالوا يتحدثون عن ذكرياتهم أمام المائدة التي شملت بواقي طبق "السليقة" و أطباق البليلة التي أعدتها جارتكم , تستمع لحديثهم مستمتعا ببساطة الحياة حينها عندما كان الأطفال يدورون في الشوارع باحثين عن الفول و الحمص و طالبين لعاشورتهم مرددين :" اللي ما تعطيش الفول يقعد راجلها مهبول" , و كيف أنهم كانوا يخافون من الفتاشة , تلك الغول التي كانت تأتي لتفتش بطون الأطفال في أسطورة لا أذكر بقيتها , عند بوسعدية و ركضهم خلفه مرددين :" وين حوش بوسعدية"  , وكيف  تجلس الفتيات عند العمة أو الخالة التي تأخذ الكحل بيدها و تضعه على أعينهن .
تكتشف بأننا بدأنا في نسيان هذه العادات,بأنه  شيئاً فشيئا بدأت عاشوراء تفقد متعتها , بل و كل المناسبات كذلك فمن الطفل الذي سيصدق وجود غول اليوم , ربما سيصدق وجود مصاص دماء أو "زومبيز" و لكن لن يؤمن بالغولة فهي أسطورة قديمة , حتى بعض الفتيات لن يعجبهن الكحل العادي , و سيرفض بعض الأطفال توزيع طبق الفول و الحمص على الجارات , فالحياة باتت أصعب و أقسى و بات الناس يرفضون أن يحتفلوا بمثل هذه الأشياء وسط الحزن و الألم و وسط أصوات النشاز الهاتفة :" بدعةٌ بدعة " ,  فبوسعدية أصبح مفقوداً خرج و لم يعد , و بيته لم يعد إلا ركام تراب يرقد بجانب منارة إخريبيش , أما الكحل على أعين الفتيات الصغيرات قد ساح بعد امتزج بدموع حزن على أخٍ قُتل غدراً و القاتل مجهولة .

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

المية تروب


  جالسٌ في غرفتي أتأمل بحسرة و تأسفٍ على صور لأيام الشباب , حيث الطيش و التهور حيث لم تكن حدودٌ لأحلامنا و لا أفعالنا , حيث لم يمنعنا التهاب المفاصل من الجري وراء كل شيء نريده , في تلك الأيام التي لم نظن بأننا سنكبر يوماً ما , و لكن ها قد حد ضعف مفاصلنا من أفعالنا , و لم نعد نحلم فكيف نحلم و قد منعت الآم الأمراض النوم عنا .
تدرجت في الصور شيئاً فشيء مرور بكل ما تلى مرحلة الشباب من مراحل , صورتي مع أمي و أنا حامل لشهادة تخرجي , صورتي في أول يوم عمل لي , حتى وصلت لصورة وددت لو أني أستطيع أن أرميها و لكنها تضم أكثر شيئين أحببتهما منذ خليقتي , صورتي مع تلك التي كانت لي زوجة بينما كانت تحمل أول و أخر ابن لي .
سرعان ما تذكرت سبب كرهي لتلك الصورة أو على الأقل جزء منها , تذكرت الفرحة التي كانت في الأجواء عندما خرجت هي من عند دكتورة النساء و قالت لي بأنها حامل , تذكرت كيف أني لامست السماء بجسدي و روحي و وجداني عندما عرفت بأن الجنين الذي ببطن زوجتي هو ولد , و كيف انهال الدمع من عيناي فرحاً عندما حملت ذاك الطفل الذي قد وُلد للتو , تذكرت كيف أن قلبي قد قُسم لنصفين  نصف ملكه هذا الكائن الملاكي الجميل و نصف بات ملكاً لتلك الأنثى , كيف عشت بحبهما كل أيامي .
و بينما أنا كذلك دخل ابني من الباب قاطعاً حبل أفكاري و عائداً بي عشرين سنة للأمام ألقى علي التحية و دخل مسرعاً إلى غرفته فأحسست بأن خطباً قد ما أصابه فلحقت به و قرعت باب غرفته و دخلت جلست و قلت له بأنه إذا ما كان يعاني من أمر ما فبإمكانه أن يتحدث إلي كصديق أو كأخ لا كأب , فقال بأنه ليس بحاجة إلى ذلك أعدت العرض عليه و خرجت , عدت لمجلسي الأول و إذ اسمع صوتي أقدامه قادم فنظرت باتجاهه ثم جلس و الحزن بعينيه , و بدأ يحدثني فقال :
"يا أبتي هام قلبي بعشق فتاة , رأيتها فأعجبتني حدثتها فوقعت في شباك حبها , لم أكن أعرف ما أفعل فأنا ما عندي تجربة بالحب ولا عندك زورق , عشتها معها ما ظننته أجمل أيام حياتي"
قلت و بداخلي نوعٌ من الخوف على ولدي :" و مالمشكلة فالحب ليس مشكلة أبداً".
قال :" نعم أدري بأنه ليس بمشكلة و لكن ما يحدث بعد ذلك هو المشكلة , فهذه الفتاة يا أبي كان لها تجربة بالحب , تجربة انتهت بخيانة من الطرف الأخر , تجربة جعلتها امرأة لعوب تغازل كل الرجال و تتودد لهم , و لكن ذلك لم يمنعنِ عنها فظننت بأن أكبر إنجاز لي سيكون هو أن أجعلها تنسى كل الرجال و تهتم بي , فبدأت أراها تراسلني في دقيقة و تتغزل في غيري بالدقيقة الأخرى , و كان ذلك أشد ما ألمني و حرق قلبي كحرق نيرون لروما , و مع ذلك لم أهتم , بل كنت أقول لنفسي بأني الوحيد الذي تقول له تلك الكلمات من قلبها أو هذا ما ظننته , حتى رأيتها اليوم بالجامعة تمشي و بجانبها رجلٌ ما يمسكان أيدي بعضهما بعضا , هربت من الواقع و حاولت أن أجد لها أعذاراً و لكن حتى قلبي في تلك اللحظة لم يقف معها كعادتها بأن يقف مدافعاً عنها محامياً في كل جلسة أكون فيها قاضياً و يكون عقلي مدعياً عاماً , و بعد ذلك بقليل جائت و قالت بأنها اذا استمرت بعلاقتها ستظلمني لأنها لن تستطيع أن ترك عادتها , تخيل يا أبي أحببت بصدق فماذا كان جزائي , كان جزائي بأن تُفضل عليك كل الذين لا يرونها إلا جسداً , قل لي يا أبي لما حدثتني أنت و أمي عن أن زواجكما كان عن حب ولم تخبراني عن سبب طلاقكما ؟ , لما تعلمني بأن الحب جميل و لكن له وجه قبيحٌ أسود ؟"
و بينما كان يحدثني كان عقلي قد ذهب و استرجع ذكرى تركي لأمه تلك التي أحببته و أنا على دراية بأفعالها السابقة و التي لم أعتبرها شيئاً مهما و لكن كما يقول المثل الشعبي عندنا ( المية تروب) فإذا بي أكتشف بعد سنوات من الزواج بأنها مازلت تمتلك حساباً وهميا على شبكة تواصل اجتماعي و بأنها لم تقطع علاقتها بأحدٍ من أولئك الذين كانت تحدثهم بل و مازالت تضع صوراً لجسدها , علمت حينها بأن ابني هذا يسير على نفس طريقي و لم أعلم ما أقول له فنظرت طويلاً في عينيه و قلت و بداخل حزن و آسى :" يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب , ولكن سمائك ممطرة و طريقك مسدودٌ مسدود .