الاثنين، 29 فبراير 2016

في الغربة (1)

مللت التواجد في غرفتي بعد أن صارت مزدحمة بأفكاري المتخبطة في كل الجدران حتى باتت تخنقني , قررت الخروج في جولة يومية أقوم بها , ساعة أمارس فيها التوحد مع نفسي وسط شوارع هذه المدينة , ثم اللجوء إلى مقهى صغير وقعت في حبه منذ المرة الأولى التي جلست فيها فيه , ربما لأنه يذكرني بطيب الذكر (بكرج) .

بدأت في السير شاقاً الشوارع الخالية , غريبٌ خلوها هذا , تقريباً لا أحد يمشي هنا , مررت ببضعة مجموعات من الناس لكنها لم تكن تركية , خليطٌ من الإخوة العرب و الأشقاء الأفارقة ربما مجموعة من أصحاب العيون الضيقة و اللغة الروسية و الذين جاؤوا من دولة تدعى (شيئا ما-ستان) , أين الأتراك ؟! , أين اختفوا ؟! مالذي حدث لهم؟! جاء صوتٌ في رأسي يقول بسخرية "أكلتهم الأسماك", فكرت في بضعة أسئلة باتت تدور في رأسي كل يوم , أسئلة من نوع (من الذي أتى أولا الدجاجة أو البيضة؟ ) , ثم وجدت بأن أقدامي قد سحبتني إلى ذاك المقهى المركون في أحد الشوارع الخلفية .

جاءت قهوتي و أخرجت كتاباً عن مبادئ الفلسفة , كم تصبح قراءة الكتب مملة عندما تكون من ضمن منهجك الدراسي , في الطاولة المجاورة جلس ابن صاحب هذا المقهى و مُعد القهوة فيه يتحدث مع أصدقائه بغضبٍ عن خسارة فريقه البارحة , شاءت الأقدار أن يكون مشجعاً للأرسنال , ذاك الفريق الذي هزمناه البارحة , صارحته بتشجيعي للمان يونايتد و على فمي ابتسامة ساخرة تقول نعم لقد فعلناها و هزمناكم بفريقنا الثاني , عُدت إلى الكتاب و لكن أذني لم تعد , ظلت مزروعة على تلك الطاولة حتى سمعتهم يتحدثون عن مبارة مهمة الليلة , بشكتاش سيواجه فنربخشة الليلة , لهذا السبب كانت الشوارع خالية , هم يجلسون الآن في المنازل ينتظرون بداية القمة , بعضهم حتما يجلس في مقاهيٍ تعرض المبارة , ذِكر مبارة اليونايتد و الأرسنال ثم ذكر المقاهي أعادني سنة للوراء حينما كنت أجلس في مقهىً مُنتظراً مبارة اليونايتد في مثل هذا الوقت من السنة الماضية , لم أكن لوحدي , كان معي دوماً ذاك البدين ذو النظًّرات المُسمى بأنس , أحياناً تواجد كريه أخر بنظرات يقال له الفوكس , أو ملعونٌ ثالث بنظراتٍ هو الأخر سُمي بخالد , اللعنة من هؤلاء العميان الذي أرافقهم؟! .

لم يكتفي عقلي بتذكر هذا قرر البحث في ذكرياتي عن أشياءٍ أكثر فكتب جملة (مبارة قمة) حتى يسهل عليه البحث , خرجت للسطح أيامٌ جميلة مضت , أيام مباريات النصر و الأهلي , كم لهذه الذكريات طعمٌ حلو , نحن في مطلع شهر مارس , وكل نصراويٍ يتذكر هذا التاريخ بفرح , بينما يحاول كل أهلاوي نسيانه , و لن يفلح , انه شهر ال3 ,عندما احتفل كل محبٍ للغلالة الخضراء بفوزٍ جميل على الجار و العدو بثلاثية جميلة , فوزٌ جاء في يوم الثالث و العشرون من شهر ثلاثة في يوم الثلاثاء تحت قيادة مدرب له في يده ثلاث أصابع .

أغلقت كتابي و بدأت في مقارنة بين بنغازي و فماغوستا , تشابهت المدينتان في أشياء عديدة , فان كانت بنغازي حكية تن كما يُقال هنا , فهذه المدينة هي "حكية" أصغر منها , توجد في كلاهما سبخة , الفارق ربما يكون اللغة , و أيضاً وجود الحرب , عندما كنت عائداً على الأقدام نحو المنزل في ظهيرة هذا اليوم , سمعت صوت رصاصٍ و اشتباكات , ردة فعلي كانت بأن وقفت في منتصف الطريق باحثاً بسرعة من مصدر الصوت , لم أدرك بأني أمر بالقرب من معسكر و أن هذه الأصوات ما هي إلا تدريبٌ للجيش داخل هذا المعسكر , كل ما فكرت فيه هو وجود اشتباكات قريبة , ضحكت على نفسي قليلاً كضحكي على هؤلاء القوم في أحد الأيام قبل أشهر , كان ذاك اليوم هو مناسبة وطنية هنا , أعطونا عطلة فخرجت متجهاً إلى بيت المدعو سالم بدر لشرب القهوة , عندما ظهرت خمس طائرات حربية في استعراضٍ احتفالا بهذا اليوم , نظرة خاطفة للسماء ثم عدت بالنظر للأرض فوجدت بأن الشارع و أسطح المنازل و شرفها قد امتلأت بناسٍ خرجوا ليصوروا هذه الطائرات المحلقة في السماء , على شفتاي ابتسامة و بداخلي شخصٌ يقول لهم لقد رأيتها و سمعتها تقصف و تضرب كما رأيتها تسقط و تنفجر , ثم سؤالٌ عن الطريقة التي غيرت بها الحرب تفكيرنا و جعلته مختلفاً عن هؤلاء .

حسنا يجب علي الآن كتابة كل هذا الكلام  .

السبت، 27 فبراير 2016

انا و سيبيموس سيفروس

في حوض أبولو كنت جالساًمستمعاً بالمياه الرائعة , أمامي كانت الحسناوات الثلاث , عيبهن بأنهن دوما مع بعضهن فتحتار أنت فيمن تشاهد أو تغازل , بجانبي جاء رجلٌ عظيم الجسم , طويل القامة , له منكبين ما رأيت من قبل أعرض منهما , سألته من الجالس فقال و هو ينظر للسماء : "سيبتموس سيفرس و أنت من تكون ؟" , فقلت بشيء من الخوف و كيف لا أخاف و أنا في حضرة إمبراطور روما فقلت : "تقول الدولة بأن اسمي أحمد و يقول الأصدقاء بأن اسمي هكسي " , نظر نحوي بنظرة جانبية و قال لي :" اسمك و لسانك يقولان بأنك لست من الإغريق ولا من الرومان , فمن أين أنت ؟" , بادلت الإمبراطور بالنظر و قلت له :" أنا من مدينة التفاح الذهبي كما سماها الإغريق , من بنغازي , لي جذور في مصراتة , يقول البعض بأن أصولي تركية و يقول آخرون بأنها يهودية" .
فسألني قائلاً :" و أنت ماذا تقول؟"
أجبت :" أقول بأن أصولي عربية من أرض الحجاز أو هكذا أعتقد ".
عاد الإمبراطور فسألني :" من أي عصرٍ جئت ؟ أمن عصر الفتوحات ؟."
فأجبت :" نعم , لكن ليست الفتوحات الأولى التي أنهت وجود الرومان في شمال أفريقيا , بل من عصر فتوحات و غزوات الألفية الثالثة ".
-" أنت إذا من عصر هؤلاء الذين دمروا الأخضر و اليابس , استيقظت صباح اليوم  بعد أن وصلت من لبدة البارحة و خرجت أتجول في قورينا فوجدت أن غاشماً جاهلاً قد نقش بعض النقوش على عامودٍ عظيم كاتباً "ذكرا من س إلى أ حب لأبد" , صحت في الحراس و في كل الموجودين بأن من فعل هذا فقالوا لي أ      بأنه رجلٌ من قومك , و أخبروني بأن لكم أفعالاً تجاوزت ذلك , و الآن قد حان الأوان لأن يعاقب أحدكم على هذه الأفعال " .
هنا أشار الإمبراطور لحراسه إشارة لم أفهم مغزاها إلا بعد أن وجدت نفسي محمولاً في الهواء يمسكني رجلين ضخمين من ذراعي , قلت له في صوت المتوسل الباحث عن فرصة أمل :" هلا منحتني فرصة أدافع فيها عن نفسي ؟".
نظر إلي نظرة فهمت من مغزاها بأن تحدث فقلت من مكاني :" يا سيدي لم تعد ليبيا و لا شعبها كما عهدتموها , فقد باتت ليبيا دماراً و بات شعبها جاهلاً يقاتل بعضه البعض , لقد ظن ذاك الشخص بأن هذا العامود ليس إلا عاموداً رخامياً " .

نظر إلى السماء ثم دار بالنظر حول المكان ... ألقى تحية على رجلٍ مسن اجتمع حوله مجموعة من الناس بدا كأنه يعلمهم شيئاً , ثم قال لي :" لقد قرأت قليلاً عما يدور في البلاد هناك , وجدت بأن فيكم نسبة غباء , أحببت قيامكم بثورة , لكن لم أحب ما حدث بعد ذلك , لم يعجبني بأنكم التففتم حول بضعة سجناء و جعلتم منهم سياسيين ,و جعلتم من سفهاء القوم إعلاميين , يخرجون على وسائل إعلامكم فيتغوطون بضعة أفكار أخذتموها و جعلتم منها كلاماً عظيماً , تتبعتم شخصاً كان بالأمس جاسوساً و قلتم عنه بأنه وطني و ما إلا ذلك و قد نسيتم بأنه قد كان عميل استخبارات مزدوج يعطي المعلومات لمن يدفع أكبر مبلغ من المال , و الأكثر من ذلك أنكم جعلتم من أناسٍ عاشوا بالخارج أغلب عمرهم نوابٌ عنكم ".

قلت له :"و لكن هذا الكلام قد يقوله الرومان عنك فأنت الذي أتيت من ليبيا لتحكم روما"

-"قد كانت لبدة حينها جزء من روما , ولكن دعني أقل لك , إن من يعش في ليبيا يستطيع أن ينجح في أي منصبٍ يتولاه بالخارج , لكن العكس غير صحيح , أُنظر لكل الأطباء و العلماء و الأدباء الذين عانوا في ليبيا ثم خرجوا بعيدا فبات لأسمائهم رنينٌ يسمعه القاصي و الداني , انظر لشيشنق الأول , الفرعون الذي حكم مصر ثم أصبحت عائلته العائلة الحاكمة لخمس قرونٍ تلتها , من يتربى في دولة سيظل يذكرها دوما , سيحب مكاناً أخر رفقة موطنه ".

وقبل أن يكمل الإمبراطور كلامه أحسست بصدمة فاستيقظت من نومي و وجدت بأني قد وقعت على الأرض

الأربعاء، 24 فبراير 2016

ملحد

اليوم الأول من العام الدراسي الجديد , طفلٌ يدخل إلى المدرسة رفقة والده , عالم جديد يُفتح أمامه , في الساحة أطفالٌ تجري و تلعب , في لحظة خاطفة خرج والده و تركه  واقفاً في الساحة وحده , سمع صوت رنين جرس و بدأ الطلبة في تنظيم صفوفهم , مدرسة واقفة تصيح لطلاب السنة الاولى بأن يقفوا في صفٍ هنا , أطفالٌ بالأمس كانوا يلعبون و لا يعرفون معنى القوانين اليوم يُطلب منهم أن يلتزموا بطوابير , دخل الصف , أول مادة ... تربية إسلامية , أعجبه موضوع هذه المادة فقرر و تمنى أن يكون شيخاً أو مدرس تربية إسلامية عندما يكبر , دخل خلوة مسجدهم بعد فترة و بدأ في حفظ القرآن و تعلمه .

بعد أعوام , بات فتى له خمسة عشر , فتىً ُملتزم يحفظ بعضاً من القرآن , يصلي كل الفروض , يحضر في أوقات الفراغ دروساً دينية في مسجدهم , فتى يبدأ عامه الثانوي الأول , جلس بجانبه شابٌ أخر يدعى عبد الله , حاول كلاهما كسر جدار الصمت الواقع بينهما , تعارفاً و جرهما الحديث إلى موضوع الدين , قال هو بأنه يدرس في خلوة كذا , نظر له عبد الله مستنفراً و قال : "شيخها مرجئة " , (مرجئة ؟!!) كلمة جديدة و غريبة على قاموس هذا الشاب , سأل شيخه عنها فنهره الشيخ عن مرافقة قائلها لأنه :" خارجي تكفيري" , كلمات ثلاث جديدة تضاف إلى قاموسه أحس بأنه من الخطر سؤال شيخه عنها , توجه إلى الشيخ جوجل و سأله , و عند جوجل الخبر اليقين , وجد إجاباته و انفتح أمامه عالمٌ أخر , تتبع خيوطه شيئاً فشيئاً , كلمات كثيرة , متصوفة و مبتدعة , رافضية و معتزلة , مرجئة و خوارج , سلفية و جهادية , سؤالٌ لاح في باله بأن من كل هؤلاء ؟ , هل هؤلاء كلهم مسلمون , وجد نفسه عند اليوتيوب يشاهد مقاطع لمناظرات بين مسلمين و ملاحدة  و نصارى , في اليوم التالي كان يقص على شيخه عن ما وجده بالأمس من مناظرات , متوقعاً بأنه سيفرح و لكن كلا , فمن شاهده بالأمس كان صوفياً ,
 " ولكنه مسلم يا شيخ "
هكذا رد ببراءة على شيخه فأخبره الشيخ بأنه مبتدع ليس على منهج السنة , و أننا نحن السلفية أصحاب هذا المبدأ , "سلفية! لقد ظننت بأننا مسلمون " , ردٌ أخر جعل شيخه يجلس على الأرض و يقول له
 "بأننا نعم مسلمون و لكن كنوع من إظهار أننا لسنا كمثل الذين تحزبوا و تفرقوا من المناهج الأخرى نقول بأننا مسلمين سنة سلفيين " .
لم يشأ أن يكمل مع الشيخ هذا النقاش الذي لن يستفيد منه شيء , و قبل أن يكمل الشيخ كلامه  نصحه ببعض شيوخٍ ليشاهد محاضراتهم بدل المبتدعة الآخرين .

أثناء حفظه للقرآن مر كثيراً على آياتٍ تتحدث عن التفكر و التعلم , فأضاف لقراءة القرآن علوماً أخرى , يدرس بعض الفيزياء و الفلك , وقع في حب بعض الفلاسفة فقرأ كتاباتهم و من هنا بدأت المشكلة , في يوم جمعة اعتلى الخطيب المنبر و بدأ يتحدث عن خطر بعض الكتب و البرامج , يأمر أولياء الأمور أن ينتبهوا لما يفعله و يقرأه أبنائهم فبعض القراءات قد تقود إلى المجهول , حذرهم من جعل أبنائهم يقرؤون لفلان أو فلان فبعض هؤلاء يتناول مواضيع لا تناقش و أسئلة لا تُسأل .

جلس بينه و بين نفسه بعد تلك الخطبة , كان عقله يقول بأن في هذا الأمر خلل , تعلمنا في البداية بأن الإسلام واحد و اليوم وجدت أمامي بدل الإسلام عشرة , كل منهم يقول بأنه هو الصحيح و يذم غيره حتى أصبح الأمر أشبه للنصرانية , أقله إن النصارى لم يفعلوا ما فعله هؤلاء , ثم من هؤلاء الذين قال لي الشيخ عنهم , واحدٌ يقول بأن الأرض لا تدور و لو كانت تدور لما وصلت طائرة خرجت من الشارقة إلى الصين لدوران الأرض لأن الصين ستظل تذهب في الاتجاه الأخر , و هذا أخرٌ يقول بأن قيادة المرأة للسيارة تؤثر سلباً على صحتها دون ذكر أي دليلٍ علمي واحد , و اليوم اتى هذا الثالث لينهرنا عن قراءة كل شيء تقريباً , و كأنه يقول لا تفكروا , لا أدري إذا كان الإسلام ديناً كاملاً كما يقول هؤلاء لماذا يخافون إذا من بضعة كتاب بشريون , هل يُعقل أن يكون كتابٌ كتبه إنسان أكثر تأثيراً من كتابٍ كتبه الله ؟! , لماذا الخوف منهم إذا ؟ .. مهلا , هل حقاً هذا دين الله كما يقولون , لا لا أظن ذلك فما رأيته من هؤلاء تقديس لأشخاص تماماً كما كان الأمر في أوربا ... كل هذه الأديان متشابهة , و أنا لن أتبع ديناً يقول لي لا تفكر , ثم هل يعطيني الله عقلاً و يمنعني من استخدامه لأكون كدابة تُساس يميناً و يساراً .... سأنكر وجود كل هؤلاء و أكذبه .

أنهى نقاشه مع نفسه بأن أصبح ملحداً لا يعترف بأي دين أو إله , بالطبع سيأتي مشائخٌ كثر ليلعنوه , و سيأتي العديد ليذموه و يذم الكتب التي قرأها , ربما سيصبح مثلاً يضرب بعد ذلك , و لكن كل هؤلاء لا يدركون بأنهم يوجهون اللوم للجهة الخاطئة , لم يوجهوا الذنب لمن حاول أن يُدخل الدين بطريقة علمية دون أي أدلة و كأنه يستخف بكل العقول , لم يلوموا من أراد أن يطبق مقولة (اطفىء نور عقلك و اتبعني ) , هذه المقولة التي فشل قساوسة عصور الظلام في أوربا في تطبقيها , كان هذا قبل سنوات , عندما كان الحصول على كتابٍ أو معلومة يطلب مشقة , فما بالك باليوم في عصرٍ بات بالإمكان فيه أن ترى أمريكا من مكانك , إن كثرة الملحدين في الشرق الأوسط و كرههم الشديد للإسلام ماهو إلا نتيجة لما ينتهجه بعض الشيوخ في الدعوة بأساليب خاطئة و لهذا أعتقد بأنه إن كان هؤلاء الملحدين مذنبين , فإن ذنبهم في رقبة هؤلاء .


الثلاثاء، 23 فبراير 2016

فلتفرحي

اليوم فلتعلني أفراحك , اخرجي و ارقصي بين شوارعك , غني بين شفتي نازحٍ عاد لبيته بعد فراق , اليوم لكِ أن تخلعي ثوبك الأسود و ارتدي ما عندك من ألوان , مسموحٌ لكِ بأن تضع عناقيد الأضواء فوق خيم العزاء و ليصبح العزاء عرساً , لكِ أن تذهبي غدا إلى كورنيشك و تجلسي على شط الشابي رفقة فنجا قهوتك , لكِ أن تزوري المنارة , ثم اذهبي إلى مقابر الهواري و زوري موتاك الذين فارقتهم لعام , افرحي و لكن لا تسرفي فالفرح , فالأعداء متتالية , و انتبهي لمن حولك من يقولون بأنهم أصدقاء فخلف كل مائة صديق هناك عدو يختبأ ينتظر الفرصة المناسبة ليهجم , افرحي و لكن لا تنسي أبنائك كما فعلتي قبلاً , فهؤلاء هم من مات لأجلك , لا تنسيهم كما فعلتِ سابقاً , ولا تنسي من نساك بالأمس , لا تنسي أبنائك الذين شغلوا بخالاتهم عنك و لم يزرك أحدٌ منهم فترة مرضك , هم الأن سيأتون بالعشرات , كل منهم سيحضر معه فيلق مصورين و صحفيين ليقولوا بأن النائب فلان أو الوزير علان في زيارة لأمه التي نساها لعام .

أقول لك احذري مرة و مرتين و ثلاث , احذري مِن مَن طرق بابك جائعاً و اكرمتيه , فليس كل مُن نكرمه ذو أصلٍ طيب , فإذا أكرمنا الكريم ملكناه و إذا ما أكرمنا اللئيم تمرد , و كم من شخص كبر و تربى و نشأ فيك ثم أنكرك , لم ينكر فضلك فقط بل أنكر وجودك بالكامل , افرحي و أغلقي باب الفرحة على نفسك كم أغلقوا هم باب الحزن عليك و جعلوك تبكين وسط الظلام وحدك , فبعض إخوتك يا حبيبتي كإخوة يوسف , بل إن بعضهم كقابيل ابن ادم.

ضمدي جراحك , و امسحي أحزانك , ولا تقلقي على ما هُدم فلك أبناء سيشمرون عن سواعدهم لحظة البناء , إني لأشتاق لك , و أشتاق للسير في شوارعك رفقتك , أشتاق للمشي بين ناسك و أنا أحملك في قلبي , أشتاق لمنارتك و ضريحك , لبرك و بحرك , لناسك و أهلك , للجماد و للحيوان , أشتاق لأشعة شمسك ساعة ظهر وسط الزحام , ذات الأشعة تشتاق لملامستك , فافتحي شبابيكك و دعيها تدخل و ارقصي معها و أرسلي صور فرحك , لأفرح و أحزن لأبكي و اضحك لأني لست معك , و لكن لا تقلقي فلي عودة إلى أحضانك قريباً , و مهما طارت و ابتعدت طائرتي فلابد مِن أن تحط في مطارك قريبا .


الثلاثاء، 16 فبراير 2016

جاك دانيل

أمامي جهاز حاسوب محمول يُعرف باسم لابتوب , على يسار كوب زجاجي به شراب  درجة لونه بين الأحمر و الدمي صُنع في مصنع شخص اسمه جاك و لقبه دانيل , أخذت رشفة منه ثم الثانية , بدأ الأشياء تصبح أجمل أمامي , نسيت كل شيء كان يُتعبني , نظرت إلى تاريخ اليوم فوجدت بأننا في فبراير .. اييه يا فبراير , أنا أذكر وجود حدثٍ ما في هذا الشهر , حسناً هناك عدة أشياء , عيد الحب , عودة دوري أبطال أوربا , قرة العنز , هناك شيء ناقص , عصرت دماغي كما عُصر العنب لصنع هذا الشراب الذي بجانبي , على ذكر الشراب دعني أخذ رشفة أخرى منه ... حسناً مالذي حدث في هذا الشهر ؟ .... نعم إنها ثورة السابع عشر من فبراير , الله الله يا ثورة , لأول مرة أكون خارج البلاد في مثل هذه الذكرى , ترى لو كنت هناك هل سأخرج للإحتفال ؟... دعني أقول بأني هناك ماذا سأفعل .... رشفة أخرى من الكوب الذي بجانبي.

أنا الآن في بنغازي سيارات و ناس في كل مكان , بعضهم يرفع علما مبتهجاً و البعض يسب و يلعن في سره كل هؤلاء الذين تسببوا في تعطليه عن مشواره , حل الظلام فجاءت أضواء السيارات و المحلات , مياه على الأرض نتيجة لأمطار سابقة هذا اليوم , و أنا أمشي في هذا الشارع مقسوم الأحاسيس بين الأسى و الفرح , من بعد رآني رجلٌ بلاقط صوت يسمى عند الغرب مايكروفون , خلفه كان رجل أخر بكميرا ضخمة على كتفه , بدؤوا بالسير نحوي , تباً كم أكره هؤلاء المذيعين , يذكرونني بأستاذة المدارس , عندما تكون جاهزاً للإجابة عن سؤال لا يسألونك , و يحدث العكس عندما لا تكون جاهزاً , كذلك هؤلاء يتركون كل الناس التي أمامهم و التي قد تموت فرحا إذا ما وقفت خمس ثوانٍ أمام العدسة و يبحثون عن أمثالي ,
سألني المذيع  أن ماذا تقول في هذا اليوم ؟
ااه حسنا , حاولت الابتعاد عن اسطوانة السياسيين الأولى التي تضم ترحماً على الشهداء و عودة للمفقودين و شفاء للجرحى , حككت رأسي قليلاً و قلت :" أرسل سلاماً و تحية , سلامٌ على من ماتوا في هذه الثورة , سواء من هذا أو من ذاك فإن كانت الراية مهمة , فالأهم هو النية , و كم من شخص مات تحت رايتنا ذات الثلاث ألوان و في نيته سرقة و نهب , و آخرون ماتوا تحت اللون الواحد و في نيتهم دفاعٌ عن أرض , سلامٌ على كل من مات ظلماً في كل عهد , فالظلم ظلمٌ مهما كان الظالم و المظلوم , سلامٌ على من سُرق بيته و ماله , سلامٌ على كل إنسان نام في بيته فأيقظته صوت قذيفة سقطت على غرفة أولاده , سلامٌ على كل طفلٍ خرج يلعب في الشارع و لم يعد أقول لكم بأن لكم جنة  تسعدون فيها .....
المذيع :" هل أكملت؟"
أنا :" كلا انتظر فأنا بحاجة إلى رشفة أخرى "
عدت إلى غرفتي في قبرص شربت من الكوب رشفة أخرى, ثم عدت مسرعاً إلى بنغازي , وقفت أمام المذيع مرة أخرى و بدأت أقول :
" تحية إلى كل من قَتَلَ و دَمَّرَ و شرَّدْ , تحية إلى كل من هتف و قال صفيهم بالدم , و تحية إلى من طبق هذا المقولة بعد فبراير , تحية إلى كل أولئك الذين تراقصوا في ساحة العزيزية و اليوم هم من جنود و حراس الثورة , تحية إلى أولئك المتراقصين أمام المحكمة الذين صدعوا رؤوسنا اليوم بعد أن دلهم أحدهم على كلمة نكبة فحفظوها و باتوا يعيدونها كببغاء مزعج يعيد ما لا يفهم , تحية إلى كل فاسدٍ و فاسدة صوت لهم الشعب يوما ليكونوا نواباً لهم , ثم جاءت همزة بعد الألف فأصبحوا نوائب للشعب , تحية إلى شعب يستمع إلى سفيه بالليبي و زملائه من رويبضات القوم , تحية إلى شعب يحركه مراهق من وراء قناع التواصل الإجتماعي مخفيا وجهه , تحية إلى بائع ذمة نسي بأنه بالأمس القريب عمل كجاسوس مزدوج يوصل المعلومات لصاحب المال الأكثر و اليوم بات محللاً سياسياً يكشف المؤامرات من قلب لندن , تحية لمن دمر بيوت الناس فوق الأرض و تحتها , تحية إلى سجناء و مغتربين جاءونا من خلف الأسوار و جعلناهم سياسيين يقودوننا كما يريدون , تحية إلى تلك النسوة المولولة على فقيدها العقيد كنساء صعيد مصر, ألا يعلمن بأن من مات لا يعود , و بأنه إن ذهبت عصا فهناك مليون عصا في ليبيا , تحية إلى السادة أعضاء المؤتمر و البرلمان أصحاب العشق الممنوع , أقول لهم ناموا قريري الأعين في فنادق مصر و تونس و زيدوا مرتباتكم  و اصرفوا ما تريدون من أموال على أنفسكم و عائلاتكم فالمال مال أبوكم نعن بوكم ,
أقول لكل هؤلاء بأننا سنتقابل يوماً في جهنم ربما , و قسماً بأن ألم عذاب ربي يومها لن يمنعني من ضربكم,
أخيراً أقول بأني لست نادما لشيئين , الندم لا يصلح ما مضى , ولو كان الندم ينفع لنفع الشيعة , ليست هي  النكبة بل نحن النكبة , ثانياً كيف لي أن أندم و أنا في كل يوم أرى شهداء كما تقول تلك الدنيا :" بيصرخوا في وشنا , ما تهربوش مننا , احنا اندفنا هنا , يا أيها الجبناء ".

عدت إلى الغرفة , رشفة من الكوب ....ماهذه الورقة في الكوب ؟!! .... إنه كوب شاي , إذا مالذي جعلني أشعر بما شعرت به ؟!


الأحد، 14 فبراير 2016

فالنتاين (أنا و فكرون)

استيقظت صباحاً , حسناً يومٌ أخر ممل في العطلة , جولة سريعة على شبكات التواصل الإجتماعي قبل الدخول إلى الحمام , بيت الراحة في مسماه الشعبي أو التواليت عند من مال لسانهم للغرب .. هو يوم الرابع عشر من فبراير , بالنسبة لي هذا التاريخ ما هو إلا تاريخ قرة العنز , بالنسبة لهم هو عيد الحب أو الفالنتاين .

مرة أخرى لا أجد ما أفطر به في الصباح فأتوجه للبقال المجاور , قبل خروجي منه خرجت إحدى بناته مرتديتاً ثياباً جعلتها تبدو في أبهى حلة ,و يبدو بأنها كانت على موعدٍ مع أحدهم , هذه الحسناء التي كانت من أسباب ذهابي الدائم لذاك المحل اتضح بأنها على علاقة مع أحدهم , "كم هو محظوظ" , هذا ما قلته عندما خرجت من المحل و هي تتمشى أمامي , ودعت عيناي النظر إليها من الخلف و اتجهت إلى البيت , حسناً ما هذا ؟! جسمٌ غريب بدا عندما اقتربت منه كطائرٍ ما , حسناً هي بطة من ذاك النوع ذات الرأس الأخضر , رأيت هذا النوع سابقاً في بعض مسلسلات الكرتون , يبدو بأن الطيران أنهكها فسقطت ميتة هنا في الشارع , هدية السماء لي في هذا العيد  .

عدت للبيت أقلب بين الصفحات , أحاول أن لا ينتبه أحدٌ من هؤلاء الأصدقاء "المرتبطين" لوجودي, أذكر جيداً مشاورات الذكور منهم لي حول الهدية التي سيقدمها لحبيبته , و أذكر شكوى الإناث منهم لي أيضاً حول بأن ذاك الحبيب لم يتصل بها بعد و أنه لم يرسل لها حتى رسالة بهذه المناسبة , من قال لهؤلاء بأني أسامة منير ؟ لا أعلم , كل ما أعلمه باني أكره لعب دور المستشار العاطفي , و لسببٍ ما هم كانوا يحبونني في هذا الدور , مر الوقت سريعاً على هذه الصفحات , تغريدات اختلفت بإختلاف حالة أصحابها, هذا مستمع بهذه المناسبة و أخرٌ يستهزئ بأصحاب الدببة و الورود الحمراء , و ما أضحكني بأنه في ذات المناسبة العام الماضي اختلفت الأدوار , هل سبق أن أحضرت هدية ؟! , كلا , و أحمد الله على ذلك فرصيدي من العلاقات لم يسمح بذلك , علاقتين عابرتين انتهت كلاهما قبل قدوم هذا التاريخ , كل ما مر حولي في هذا اليوم كان محتفلاً,فتحت الجوجل فوجدته قد غير شعاره تماشياً مع هذا اليوم , تغريدات الكارهين اختفت ولم أعد أرى سوى الأحبة أمامي , حتى مبارة الكرة التي شاهدت انتهت بفوز  الفريق الأحمر , عندها فكرت بأنه يجب علي الخروج , فقريباً سيزداد عدد المحبين هنا , و ستبدأ قنوات الإم بي سي في عرض أفلام الحب , حتى قناة اقرأ صرت متأكد بأني إذا ما فتحتها فسأجد شيخاً يتحدث عن الحب في الإسلام .

حملت حقيبتي و اتجهت أبحث عن مقهى يكون خالياً من الأزواج و طيور الحب , بعد أن فحصت ثيابي خمس مراتٍ للتأكد من خلوها من اللون الأحمر , طيور الحب كانت في كل شارع و كل زقاق , تعبت قليلاً حتى وجدت مقهىً خالياً منهم , دخلت ثم جلست , و قبل أن تأتي قهوتي التفت الرجل الجالس على الطاولة المقابلة نحوي و نظر إلي قليلاً ثم عاد و نظر أمامه , لم يكن في المكان سوانا بالإضافة إلى صاحب المقهى , استغربت قليلا , بدأت في تفقد ملابسي هلعاً لعل اللون الأحمر تسلل سهواً فيها , و لكن لم أجد شيئاً , تساءلت بيني و بين نفسي عن سبب نظر ذاك الرجل لي , و ما هي إلا لحظات حتى قام من مقعده , حمل فنجان قهوته و اتجه نحوي و جلس معي , حسناُ لقد رأيت وجهه قبلاً لكن أين ؟! ... لا أذكر , قال لي متسائلاٌ :" هل تنتظر أحدهم ؟!" أجبته بالنفي , قال :" و هل يُعقل أن يجلس أحدهم وحده في مثل هذا اليوم" .
قلت له بأني أفضل الجلوس وحدي ,كذبني و قال مغنياً :
" أه يا هارب في الليالي من ليالي في الظلام
حب قلبك في قبلك من عذابك لعذاب".
قلت له :" و لكني لم أهرب من شيء , و لا يوجد في قلبي حب , بل كان و ولى , و ما كان قد بات من الماضي ".


نظر إلى عيناي و أخبرني : أنا لا أتحدث عن الماضي بل عن حاضرك , فعيونك تقول بأنك محبٌ لإحداهن  و ...
عيونك نظرة حزينة
تحكي عن الحب و حنينه
, و أكاد أن أجزم بأن خروجك في كل ليلة متجولاً في هذه الشوارع ما هو إلا لغرض أن تلتقي بها صدفة , و لكن لا تنكر ,
فشباكك ساهر مفتوح
بالنسمة و العطر يفوح
و النسمة ما تحفظ سر
ترحل و تشيل الخبر.

قلت له و على وجهي بعض علامات الضيق:" بأن حفظ الحب في القلب أفضل من البوح به و إحراج الرفض الذي يليه , خاصة بأني لست متأكداً من مشاعرها و
الشمس تجي و تعدي
و الأيام من بكرة تهدي
و الحيرة تلعب بينا
تعبانا خطاوينا ,
نعم هي جميلة , بل و لعينيها سر رائع , هي فائقة الجمال , كم وددت بأن تكون هي من يجالسني الآن لا أنت , و لكن لست أنا من يصارح بمشاعره يا سيدي , و لكن قل لي أين محبوبتك أنت ؟!"

قال لي :" لن تأتي فقد أرسلت لها رسالة قبل قليل قلت لها فيها ,
طاحن نجوم الليل
و أنتي وين ,
و لكن لم ترد , يبدو بأنه كتب لكلينا الجلوس هنا وحدنا في هذه الليل ".

قلت له بابتسامة :" فليحيا العزاب يا صديقي الذي لا اعرف اسمه ". 

الخميس، 4 فبراير 2016

نيكوتين

نصف ساعة اشتد فيها الجدال بيني و بين نفسي حول هل أقوم من سريري الآن أو أتقلب فيه قليلا لعلي أنام من جديد , و بعد أن حلق النوم و طار بعيداً قررت أن أقوم , فتحت النافذة حتى أجدد شيئاً من هواء هذه الغرفة , كالعادة أدخل الحمام أطالع وجهي في المرأة ..... أحمد الله لعدم وجود شخص يُصَبِّحُ على هذا الوجه الكئيب غيري , أدخل المطبخ لأعد كوب قهوة عربية أو تركية , لا تهم المسميات ولا الجنسيات فبلاد القهوة أوطان و كل البُن إخواني , نظرت إلى دولابي فلم أجد شيئاً يُأكل , توجهت إلى البقالة القريبة , حفظ صاحبها مشترياتي فهي يا إما مشروب غازي أو خُبز في وقت الغداء , أو عبوة قهوة و بسكويت في الصبح و المغرب , و إما كيس تبغٍ و معدات التدخين في أي وقت , رجلٌ يبدو بأنه صاحب نكتة , فهو دوماً ما يتفوه بأشياء باللغة التركية و يضحك كل من حوله عند سماعها  , أخذت قهوتي و بشكوطي و دخلت غرفتي , لو رأت أمي هذه الغرفة لقتلتني ملابس و كتب و أطباق في كل المكان , فتحت حاسوبي و أتيت بأحمد فكرون ليغني لي , قلت له بأن غني عن كل شيء و لكن عذرا لا تغني عن ليبيا و لا تطري ليبيا , عدل قيثارته و بدأ يغني عن الهارب في الليالي .

   ارتشفت قهوة ثم أخرجت تبغي و ورقة البفرا من نوع ريزلا , و بدأت في لف سيجارة , قربت اللفافة و ألصقتها ثم ثبتها بين شفتاي المسودتان و أشعلتها , نظرت إليها بقليلٍ من النشوة , شعورٌ بالفخر لأني اعتمد على نفسي في صنع السجائر ,تذكرت كيف كنت مدخنا كسولا قبل بضعة أشهر , عندما كان اعتمادي على السجائر الجاهزة , كيف تعلمت اللف و أتقنته في  بضعة أسابيع , تذكرت كمية التبغ التي أهدرتها في بداية تعلمي .... نفس أخر منها و نفخة باتجاه الشباك ... تذكرت صاحب شباك بوهديمة .. حتما هو نائم الآن , رفيق الدخان و القهوة , لمحت طيف رفيق مشاوير الصباح صاحب التيدا السوداء , بالطبع لم أنسى ذاك الطويل ابن ال بدر , رفقاء سرى في عروقنا دم محمل بالنيكوتين فأصبحنا إخوة , تذكرت أول مرة جرى فيها النيكوتين بدمي , سنوات مرت و مازلت أذكر ذلك الشعور جيداً , كيف تنقلت بين أنواع الدخان من هذا إلى ذاك , كيف جلست أول مرة و في جيبي علبة سجائر لم أعتد على وجودها بعد , كيف حولت كل ركن في غرفتي لمخبأ أخفي فيه دخاني عن عائلتي .
  تذكرت ردة فعل أمي عندما علمت بتدخيني لم تكن كبقية النساء في تصرفها , لا أدري لماذا يتصرف الأهل عند اكتشافهم بأن ابنهم مدخن هكذا , لماذا يعاملون الأمر على انه فضيحة كُبرى , تجد الأب يضرب ابنه و الأم تولول بأن ابنها قد ضاع منها و فقدتها , و كأن الأمر خسارة , تربط الأم رضائها على ابنها بتركه لهذا الإدمان , و يحلف الأب على ابنه بأنه لن يدخل البيت مرة إذا فيلجأ الابن إلى بيت صديقٍ أو قريب هرباً من العقاب الذي سيلحقه نتيجة لهذه الجريمة , و مالجريمة ؟!! إدمان الدخان جريمة لا تساوي شيئاً في بلادٍ تُحكم بالجريمة , لم أسمع عن أمٍ ولولت لأن ابنها السياسي سارق , لم أرى أباً يحلف بأن ابنه الدبلوماسي لن يبيت في البيت ... بالطبع لا فأمهات هؤلاء تتسوق بالخارج و تتنقل بين مجالس النساء تتحدث فخراً بابنها صاحب البدلة السوداء و السيارة المفخرة , أمثال هؤلاء لا يبيتون في المنازل بل في الفنادق ... نفسٌ أخر من الدخان سألت نفسي ماذا لو وجدت يوماً بأن ابني يدخن مالذي سأفعله ؟َ! و الإجابة كانت لاشيء , فأن يدخن و يسكر عندي أهون من يأتي بقذارة أخرى , هنا هو الظالم لنفسه و هو المظلوم , بل إنه أهون علي أن يقتلني الدخان بأمراضه , و أن يفتك السرطان بكل شبر من رئتي على أن أخرج و أعلن بأن فلاناً كافر , أهون علي من أن أتنزه بين شوارع مصر و تونس و أن أنام في فنادقه على حساب الدولة , بينما يقف مواطنٌ اختارني نائباً عنه في شوارع بنغازي أمام مخبز لينال رغيف خبز بعد انتظار ساعات , جرعة أخيرة من النيكوتين ثم رميت السيجارة في منفضة السجائر بجانب أخواتها اللائي ماتت قبلها , و في قلبي أسفٌ على هذه السيجارة التي طالها الظلم و سوء التقدير من الناس .