الاثنين، 28 مارس 2016

مرسال لحبيبتي


عزيزتي التي نستني...
كيف حالك ؟
أكتب لك هذه الرسالة و في القلب بعض الغضب و الحزن لكن الشوق دفعني لأن أراسلك , كنت بأمسية جميلة في الأيام الماضية , ليلة ليبية بإمتياز أعادتني إلى تلك الأرض , عشت بضعة ساعات ليبية بإمتياز, ارتسمت على شفتاي إبتسامة فيها و فاض خاطري فرحاً بها , لكن هذا الفرح لم يدم , عرضوا في تلك الأمسية فيلماً قصيراً ظهرتي أنتي فيه , و ما أن ظهرتي على الشاشة حتى عم القاعة صراخ فرحٍ و تصفيق , توقعت أن أفرح لرؤويتك لكن لا لم أفرح , على الأقل ليس بقدر فرح الأخرين , و لأكون صريحاً بداخلي اتقدت نارٌ ممزوجة من الغيرة و الشوق و العتاب , نعم عتاب , أعاتبك لأنك لم تراسليني و لم تحدثيني طوال أشهرٍ ستة , أم تراك نسيتي ؟! , أنسيتي عندما كنت أحمل حبك في قلبي و أخرج متجولاً في الشوارع به ؟ هل أغناك من هم حولك الأن عني ؟ هل أنستك أعمالهم حبي لك ؟ إني لأحسدهم حقاً , فمن هؤلاء رسامٌ أمسك فرشته و رسمك جميلة واقفة بوشحها الأسود الذي يخفي ورائه جمالٌ ما بعده جمال , منهم شاعرٌ يمسك قلبه و ينثر حبره على الورقة فتخرج منه قصيدة تتغزل بحنانك الذي ينسي الجريح آلامه , منهم جريح هوى ضحى بأحد أطرافه حتى يريك مقدار حبك , و من الحب ما قتل .. أما أنا فماذا بيدي لست برسامٍ ولا شاعرٍ ولا أجيد إستعمال السلاح , فكيف تطلبين مني أن أريك حبي مثلهم , ألم يكفيك بأني قلتها بأعلى صوتٍ عندي ؟! , لا أعلم لماذا غرت من أولئك الفرحين برؤويتك , ربما لأني أردتك لي وحدي فقط , ربما ستقولين بأني هجرتك و لكن هجرانك لم يكن بيدي , أنتي من دفعني لهذا الرحيل و الهجران , لأنك لم تعودِ كما عهدتك , حاول الزمان أن يذلك فأصبحتي يا عزيزتي قاسية على ناسك , أحببت جلوسي في مقاهيك منتظراً عودة جامعتي لكن الإنتظار طال فنويت الرحيل طلباً لما لم أجده فيك , و حتى رغم رحيلي فإن قلبي مزال في كل لحظة ينبض فيها هنا يقول فيها إسمك , مازلت أرى خيالك في كل زاوية هنا , كيف لا أفعل و انتي صاحبة الحب الأول .
أما شوقي فهو من يجعل قلبي دوما يحن عليك , يجد لك أعذاراً و يقول بأن لا تظلمها , هو من يدفعني للتفكير بيك في كل يوم , هو من يجعلني أتنفسك في كل لحظة , أي سحرٍ سحرك الذي سحرتيني به يا بنغازي ؟! , هل هي بسمة ناسك و ودهم أم تراه دفيء شوارعك , أو قد تكون رائحة سبخك , هذه الرائحة التي تعففت منها دوما و الان أتمنى بأن أعود حتى للحظة لكي أستنشقها , و ربما تكون هذه العودة قريبة , أعلم بأنك لن تردي على هذه الرسالة و ربما حتى لن تقرئيها , لكني أيضاً أعلم بأن لي قلبٌ سيظل عاشقاً لك مهما حدث و حتى لو نسيتي أنت فأنا لا أعرف للنسيان معنى, هنا تستحضرني أغنية من المغرب الشقيقة تقول :" مزال مزال عشقك في البال ننساك محال ياللي نسيتينا"

الأحد، 27 مارس 2016

على الرصيف 3


خارجٌ من محاضرتي دون أن أحدد مكاناً أقصده , تفصلني ساعةٌ عن المحاضرة الأخرى ولا مكان أقصده لقضاء هذه الساعة فيه , لمحت على الرصيف رجلاً دلت ملامح وجهه على أنه يعيش في هذه الدنيا منذ فترةٍ طويلة , يجلس عالأرض بزي عمال النظافة و عربة النظافة واقفة أمامه و في يده كتابٌ يقرأه , مشهدٌ جميلٌ إستحق في رأي أن تُلتقط له صورة فدنوت منه طالباً الإذن في تصويره:
"السلام عليكم يا عمي , هل تسمح لي بإلتقاط صورةٍ لك ؟".
أمسك اكتابه و قد ثبت الصفحة التي يقرأها بإصبعه و نظر نحي فقال:" لماذا ؟! هل تجده أمراً غريباً أن تجد عامل نظافة يقرأ؟"
أحسست ببعض الخجل من نفسي بعد هذا السؤال و حاولت أن أخفيه , شعر هو بذلك فحاول أن ينهي هذا الخجل قائلاً :
بدلاً من تصوير من يقرؤون في الأماكن العامة أو تصوير البسطاء من أمثالي يجب أن يُرى الأمر على أنه شيءٌ عادي , تصويركم هذا جعل الأمر يبدو و كأنه ظاهرة غريبة"
قلت له :" لكن الأمر يبدو فعلاً ظاهرة غريبة , فلن ترى في كل يومٍ عامل نظافة يقرأ"
طوى العجوز الصفحة التي كان يقرأها و أغلق الكتاب و قال :
" هل تملك بعضاً من الوقت لحديثٍ قد يطول و يكون غريباً من رجلٍ مثلي؟!"
أشرت له بأن نعم أملك الوقت فدعاني للجلوس و استجبت لدعوته , طوى , وضع كتابه جناباً و قال :
" إن عامل نظافةٍ مثلي يجب أن يقرأ , فحتى أحافظ على نظافة هذه الشوارع يجب أن يكون عقلي نظيفاً , ولا شيء أفضل من الكتب للمحافظة على نظافة عقولنا , فعقولنا شوارع و الكُتَّأب هم عمال النظافة في هذه الشوارع أما كتبته فهي أشبه بأدوات النظافة التي يجمعون بها الأوساخ , ولولا هؤلاء الكتاب و كتبهم لإمتلئت شوارع عقولنا بالأوساخ و التفاهات , أما عن سبب ندرة وجود هذا المشهد فهناك سران , الأول بأننا نشعر بالخجل من اهتمام الناس بنا عند القراءة , فلو مررت أنت من هنا و وجدت زميلاً لكيقرأ لما فكرت في أن تصوره , ربما لم تكن لتقطع خلوته مع كتابه كما فعلت معي , شيءٌ أخرٌ ألا و هو بأن ناشري الكتب باتوا يرون الأمر كتجارة لهم , فرفعوا أسعار الكتاب حتى بات ثمنها صعباً على أمثالي , و الحجة بأن الخامة مكلفة , باتوا يظهرون إهتماماً بغلاف الكتاب فيزنونه و يزخرفونه و هذا يعكس بأننا في زمنٍ تنظر فيه الناس لظاهر الأمور و تولي إهتماماً أكبر بها , و أخيراً أقول لك بأن الناس تقرأ لتعيش حياة أخرى لفترة , فالغني يقرأ قصصاً عن المعاناة ليذوق طعمها , و نحن نعيش هذه المعاناة في كل يوم فلماذا نقرأ عنها ؟ , بعض الكتب تحكي قصصاً عن الحب , و نحن نظهر هذا الحب في أفعالنا , أنا مثلاً أظهره في عودتي للبيت حاملاً كل متطلبات من هم في بيتي و أعيش لحظاتٍ من السعادة لفرحهم بعد يومٍ تملؤوه المعاناة ".
هنا نظرت لساعتي و أدركت بأنه يجب علي اللحاق بمحاضرتي و قبل أن أقوم صدمني شخصٌ من الخلف فأعادني لوعيِّ , و جدت بأن كل هذه المحادثة لم تكن إلا حواراً دار في عقلي و بأن الرجل مزال يقرأ , فرحلت تاركاً ذاك العامل على الرصيف .

السبت، 26 مارس 2016

يا ولدي


عزيزي ابني الغالي , كيف حالك ؟! أرجو أن تكون بخيرٍ حيث أنت , اعذرني على تأخر لقائي بك و لكني انشغلت بتوفير ما تحتاجه لتعيش حياة طيبة عندما تأتي , ثم اني مازلت أبحث عن من تكون أماً لك , و يبدو أن بحثي سيطول يا ولدي .
أردت إخبارك بأني قد إخترت (مالك) إسماً لك , لا أعلم إذا ما كنت تحبه أو لا , لا أدري إذا ما كان سيعجبك و لكن لا يهم , المهم أنه يعجبني أنا , هكذا تجري الأمور عندنا , يقرر الأبوان أو أحدهما ماذا سيكون اسم مولودهما المنتظر دون أن يشاوروه أو يأخذوا رأيه , ولأننا مسلمون , سيكون الإسلام دينك أنت أيضا, سترث عني هذا الشيء , ستكون صغيراً على اختيار مثل هذه الأشياء , فاخترتها أنا لك , كما ساختار لك لون غرفتك و نوع أكلك و موعد نومك , سأكون صريحاً معك لن تكون قادراً على إختيار أي من هذه الأشياء.

عندما تكبر قليلاً ستبدأ في الدراسة , سأحرص على أن تكون طالباً متفوقاً حتى أقول أمام الغير بأن ولدي متفوق , و حتى تتمكن أمك من إغاضة زوجة أخيها لأنك نلت درجة أعلى من ابنها , سأملىء رأسك بأنك يجب أن تكون طبيباً , ربما ستريدك أمك مهندساً , و لكن عدا ذلك لن تكون شيء أخر , لا يوجد مهن أخرى , ربما ستقول لي بأنك تريد أن تدرس الأدب , ولكن كلا , ولدي لن يكون إلا طبيباً أو مهندساً , حتى أقول أمام الكل بأني والد الدكتور مثلا , سأختار لك أي فريقٍ رياضي تشجع فلن أرضى بأن يكون ابني أهلاوياً , سأحدد توجهك السياسي وفقاً لتوجهي تماماً كما أحدد لك ملابسك التي سترتديها .

دعني أقل لك بأني سأفرح عند تخرجك , سأبني لك شقة فوق بيتنا حتى تكون قريباً مني , سأسعد عندما تأتي و تقول بأنك صرت تريد الزواج , و سأختار لك أجمل بنات عمك , ربما سنناقش هذا الأمر إذا ما قررت أمك أن تختار لك ابنة خالك , سنفكر في ذلك لاحقا , بالطبع سأفرح عندما أصبح جداً و اختار بنفسي اسم حفيدي تيمنا باسمي و سأدعك تربيه كما تريد و تختار .

ستظن بأني لن أدعك تختار حياتك كما تريده , لكن دعني أقل لك شيئاً , إن هذه هي الطريقة التي نفعل بها الأمور في هذا المجتمع , الغالبية تفعل هذا , يختار الأبوان كل شيء لإبنهما , يختاران له حياته , يحاول الأب أن يربي ابنه كأنه يصنع نسخة مصغرة من نفسه , ستكون عبارة عن نسخة كربونية مني , نحن يا ولدي مجتمع يحب فيه الاباء أن يزرعوا بذورهم في الأبناء , ليكبر الأبناء و يكملوا حياتهم وفقا لما يريده أبائهم فيما يعرف بالعادات و التقاليد عندنا , لا نحب كسر هذه العادات و كاسرها مُلامٌ من الجميع , اعذرني يا ولدي , و الأن انصرف إلى غرفتك فورا! اه لقد نسيت بأنك لم تولد بعد.

الجمعة، 18 مارس 2016

انا و مرقس


وجدت نفسي في غرفة حيطانها لم تكن بالغريبة علي , حتماً رأيت هذه الغرفة في إحدى حيواتي السابقة , هل كانت عندما جعلني توفيق الحكيم صرصاراُ أم تراها عندما صرت شابا عاش في عام 1919 ؟! , لا لا هذه الغرفة تبدو أقدم بكثير من أن تكون في القرن الماضي , بينما أنا غارقٌ في حيرتي دخل رجلٌ يرتدي ثياباً تعود إلى حقبة الرومان ربما , شعره أبيض و لحته بيضاء , بشرته قمحية تحمل تعابير وجهه هدوءٌ لم أشهده مثله قط , قمت من مكاني و سألته :" من أنت؟" .
إبتسم الرجل إبتسامة بسيط و قال :" ليلتزم كلٌ منا بدوره يا بني , انا من يجب ان يسأل هذا السؤال , فأنت تقف في غرفتي كما تشاهد ".
نظرت حولي في الغرفة بتمعنٍ فوجدت لوحة لسيدة يخرج من وجهه نورٌ غريب , صليبٌ معلق على الحائط بجوار الصورة و تحتهما في بروازٍ مذهب كانت هناك مخطوطة كتب عليها (ها انا ارسل امام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك
صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة) , قرأت هذه العبارة ثم رددتها بصوتٍ هامس , و نطق لساني بعدها فقال :" لقد قرأت هذه العبارة قبلاً , أليست هذه العبارة من إنجيل مرقس " .
نظر الرجل نحو الحائط ثم نحوي و ابستم ثم قال :" هي فعلاً من الكتاب المقدس , و يبدو أنك فتى متدينٌ يا بني , فحسب ما سمعت مؤخراً أنا أحدُ لم يعد يحفظ هذه الأشياء , و انا مرقس البشير كما يسمونني , لكنك لم تقل لي , أي الأسماء إختار لك الرب ؟ أو من أي بقاع الأرض أنت ؟".
أصابني بعض الحرج من التعريف بنفسي , فهذا مرقس الإنجيلي يظنني شاباً نصرانياً لكني قلت له :
"أحمد , إسمي أحمد و أنا من ليبيا ".
كانت علامات الذهول على وجه البشير واضحة رغم محاولته إخفائها لاحقا , دعاني للجلوس على حصيرة كانت في منتصف الغرفة و قال :" إذا أنت من أهل الإسلام , فلا يعقل أن تكون نصرانياً و يكون اسمك أحمد , لكن لا مشكلة في ذلك , فمن دخل داري صار ضيفي ".
ناولني قدرٍ فيه ماء و قرب مني طبق عنب كان على الحصيرة و قال
:" لقد سمعت بأن كل أهل ليبيا قد دخلوا الإسلام , و قد تظن بأن ذلك يزعجني , لكن لا , فليبيا أول مكان بدأت فيه دعوتي للمسيحية بشمال أفريقيا , و لي ذكرياتٌ طيبة مع أهلها , و في النهاية لا يهمني دين الشخص , المهم هو أن يكون مقتنعاً بدينه إقتناعاً كاملاً , عندما دخل قومك للديننا قبل ألاف السنين كانوا قد دخلوا عن إقتناع , كذلك فعلوا عندما جائتهم دعوة محمد , لكن المشكلة بأنهم لم يعودوا مؤمنين اليوم , نعم مازلت أتابع أخبار ليبيا بين الحينة و الاخرى , عندما أنظر اليوم إلى شعبها , أجد غالبية تصلي و تصوم لكن صلاتهم و صومهم بات أشبه بعاداتٍ تناقلوها جيلاً بعد جيل , وجدت عندكم أباءً يحذرون أبنائهم من شرب الخمر مثلا خوفاً من أن يقول الناس أن ابنه صار سكيراً , هو لم يخشى معاقبة الرب له لأنه لم يستطع تربية ابنه المسؤول عليه لكنه خشي كلام الناس , نعم شرب الخمر عندكم صفة منبوذة , لكنكم تفعلون أشياء أخرى ذات إثم في دينكم , كالنميمة و الغيبة , و كأنكم قرأتم النص الذي يحرم الخمر لكنكم لم تقرؤا النص الذي يقول بأن النميمة و الغيبة كأكلك للحم إنسان , هل تعرف ما سبب المشكلة ؟!".
حدقت في وجهه قليلاً و قد إرتسمت على وجهي ملامح الحيرة , و بعد أن فكرت قليلاً قلت له
:" المشكلة بأنه كما قلت أنت ,أن الدين بات عادة تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل , لا يدري هذا المسلم لماذا أسلم و لا يعلم سبباً لذلك سوى الذي حفظه عن أبيه ".
-" لكن الدين لا يكون بهذه الطريقة يا بني , فالدين إيمانٌ بالقلب و العقل , و للعقل مشكلة أخرى عندكم , باتت عندكم فرقة تذمه و تسبه , و تلعن كل من له عقل يستخدمه في التفكير , بحجة أن هذه الأمر لا يجب التفكر فيها , و النتيجة بات عندكم جيلٌ يصدق بأن صورة لشجرة كُتب عليها اسم محمد هي معجزة ربانية , يأخذ هذه الصورة و ينشرها مفتخراً بدينه الذي تظهر معجزاته في مثل هذه الأشياء , هل تصدق بأنه هناك مثل هذه الصورة لكن عوضاً عن محمد كُتب إسم المسيح ؟ , و لو جعلت أحد هؤلاء يرى هذه الصورة لحار و بدأ في مرحلة تخبط , منعوا كُتب الملاحدة و فلسفتهم , فظنوا بأنهم حجبوا بذلك فكرهم عن الناس لكنهم حمقى , فهم لم يحجبوا شيئاً , هم قد منعوا تلك العقول عن التفكير فقط , إذهب و انظر إلى أحد شبابكم و هو يخاطب ملحداً , ترى الملحد الذي لا يؤمن إلا بما هو مادي يستمع لشخصٍ يحدثه عن الروحانيات , هذا الملحد الذي لايؤمن بالقرآن أصلا , يعتقد أحد أبنائكم بأنه سيجعله يعود لإيمانه إذا ما حدثه ببضع أياتٍ عن القرآن ,ثم يقرأ له تفسيراً يبلغ من العمر مئات القرون , مشكلة أخرى قد أصابت معشر المسلمين عامة وليس أهل ليبيا فقط وهي تقديس التفاسير , إن القرآن كتابٌ صالحٌ لكل زمانٍ و مكان لكن التفسير ليس كذلك , لو كان الله يريد لكم أن تقدسوا تفسير عالمٍ ما للقرآن لمئات السنين , لأوحى لمحمد أن يفسره , صحابة محمد منهم من لم يحفظ الا القليل من القرآن لانهم كانوا يتدبرون في معاني كل ما يحفظونه و يتفكرون فيه ......" نظر إلي البشير و قال :" لقد أثقلت عليك بالكلام أليس كذلك فأجبت بالنفي و قد رجوته أن يكمل حديثه لكنه قال :" للأسف يجب أن أنهي كلامي الأن فيجب عليك أنت أن تصحو حتى تلحق بمحاضرتك في الجامعة".

الجمعة، 11 مارس 2016

في الحلم


اشرقت الشمس و لم تتمكن الستارة على نافذتي ممن منع أشعتها من الدخول إلى غرفتي فأجبترني على الإستيقاظ , جلست في فراشي أنظر للغرفة محاولاً استيعاب المكان و الزمان , أتذكر بأني حلمت بشيء في الأمس , ماهو ؟! , لم أستطع التذكر , سيجارة  لعلها تذكرني بما حلمت , بعض الموسيقى لتعديل المزاج الصباحي و بدأت حملة على دماغي لتذكر الحلم , فتحت حاسوبي و قرأت تهريسة كتبتها بالأمس كنت فيها جالساً مع سقراط , هي ناقصة , لماذا لم يجبرني سقراط على البوح باسمها فأجيبه ثم تقرأ هي ما كتبته حين أنشره فتعرف بأني حديثي كان دومي عنها ... حسناً لماذا بدأت في الكتابة عنها في أي حال ؟! , نعم لقد تذكرت , كانت نصيحة من صديق عندما حدثته عنها , أخبرني بأن أستغل تهريس لأتحدث عنها لعلها تفهم الرسالة , رغم أني لم أعتقد بأن هذا سينفع لأن الناس عندما تقرأ تقوم باسقاط ما قرأته على مشاعرهم و لا يفكرون في مشاعر الذي كتب  ..... مهلا , هي من حلمت بها بالأمس , اللعنة  أتعبني التفكير بها صاحياً و لجأت للنوم هرباً , فلحقتني حتى في أحلامي , لماذا هذا العذاب؟!.

حككت رأسي قليلاً و بدأت في التفكير في ذاك الحلم , كنا نجلس معاً في مكان لا أعرفه , ربما يكون حديقة أو مقهى , ربما يكون سجن القلعة حيث يجتمع العشاق في أغنية إمام , هو مكان حتماً جهزه لي دماغي حتى تخلوا لنا الدنيا بعيداً عن كل المضايقات , كنا نتحدث و أتذكر بأني كنت منسجماً في الحديث , من المرات النادرة القليلة التي أنظر فيها لعيني شخص أثناء حديثي معه , و كيف أستطيع أن أتجاهل تلك العينين , ربي سبحانك فيما خلقت , سمعت دوما عن أنك جميلٌ تحب الجمال , و لكني لم أرى سوى اليوم هذا اليوم , نسيم خفيف يتلاعب بخصلات شعرها الأسود الممتد لتحت كتفيها , نظرات و ابتسمات , كلمات و ضحكات , لا شيء يعكر صفو هذا الجو , نعم تحدث قبلها مع كثيرات , لكن لم انسجم في الحديث قبلاً كما انسجمت في هذه المرة , في كلماتها و فكرها سر جذبني , ربما سحر ربطتني به , ما أجمله من سحر.

سكت قليلا و تركتها تتكلم , بدأت أنظر إلى أعماق عينيها , لعلهما يخبراني إذا ما كانتا تحبان شخصاً أخر , لعلهما تبوحان بما لم تبح به شفتاها , لكني لم أرى شيئاً , لم تبح عيناها بشيء , بل أخفت عني أشياء , آه لو أرى إشارة أو حتى نصف إشارة تخبرني فقط بمشاعرها , أه لو أن الأية مقلوبة , لو أن الإناث هن من يعترفن بمشاعرهن أولاً ثم يأتي دورنا , لربما خف عني كل هذا العذاب و الألم , الخوف من الرفض هو ما يرعبني , و الخوف من الإنشغال بالغير هو ما يقلقني , توتر العلاقات الذي سيأتي بعد مصارحتي هو ما أفكر فيه .. حسنا لن أنتظر , سأفجرها الأن و أنهي هذا العذاب الذي سيطول إذا ما سكتٌّ , وقفت أمامها و نظرت إلى عينيها و هي تتابعني في وقوفي و قلت لها بأني صبرت كثيراً ولكن لم يعد بإستطاعتي الصبر , و كيف لي أن أصبر و أنتي رفيقة أفكاري في الليل و النهارِ , إلتزمت الصمت طويل و لكن الصمت سيقتلني إذا لم أنطق ,  هي كانت تنظر بتعجب و استغراب لكن لم أهتم , لقد اتخذت قراري و سأقول ما أريد قوله , بحق من خلقك فأحسن خلقاً و زاد الحُسن حُسناً فهباك عينان ما رأيت لهما مثيلاً في كل الدنيا , بحق من أسدل شعرك إلى ظهرك و كساه بالسواد فبات كليلة كانت كلماتك نجوماً لها , و صرتِ أنتي الليل و القمر , سأقولها و لن أعود فيها , اني بك متيمٌ و لك عاشقٌ , أُحِبُّكِ , قلتها و قد كُسرت كافها فقوليها بالفتحة أو دعيني أرحل أجول في الشوارع كمجنون سُلب منه عقله , غير ان القلب هو ما سُلب مني .

كادت أن تنطق حينما أحسست بضوءٍ ساطع أمامي , أغلقت عيناي و فتحتهما لأجد بأن الشمس قد أطلت علي من الشباك .




الاثنين، 7 مارس 2016

أنا و سقراط

على جبل الأوليبم كنت جالساً , أتجرع كوباً من القهوة المعدة من ألة عصرٍ إيطالية الصنع و حبات بُنٍ من اليمن السعيد , أسترق السمع لحوارات زيوس و رفقائه , و أختلس النظر بين الحينة و الاخرى لعلي أرى أفروديت الهة الحب و الجمال , سبب لعنتي و تعاستي , شكوتها مرة لزيوس فقالت بأنها فينوس ولا ذنب لها فيما حل بي , فينوس هي من جعلت أولئك الكيوبد يرمون سهامهم في تلك اللحظة فأصابني العشق و رميت بالأسهم , قال زيوس حينها بأن فينوس ليست من عنده , فينوس هي عند الروم و للروم ألهة وحدهم , و قالت أفروديت بأنها تتمنى لو كانت هي من فعلتها  , قالت :" لقد شاهدتك تتظاهر بالقوة أمام  الإناث , فتمنيت لو أني وهبت الجمال لكل فتاة ستراها في حياتك ثم جعلتك تقع معجباً بها , و لكن يبدو بأن أختي من الروم فعلتها قبلي".... عجباً!! أي ذنب إقترفت أنا لتعاقبني ألهة الروم و اليونان و تتفق معا على الإطاحة بي و هم المختلفين .
بينما كنت أتمشى بين حقول أفكاري وقف أمامي رجلٌ ذو شعرٍ أبيضٍ طويلٍ لكنه بدأ بالإنحسار عن رأسه في ظاهرة تعرف بالصلع , و لحية غزيرة بيضاء اللون هي الأخرى , كان يرتدى شيئاً أشبه بملابس الإحرام عندنا إلا أنها كانت تُظهر من جسده أكثر من ما تستر تنحنح و قال لي :
" عمت مساءً أيها الشاب , لا أقصد المقاطعة لكنك تجلس في مكاني ".
اعتذرت منه عن جلوسي و تنحيت جانباً و طلبت منه لو أنه يسمح لي بأن أجلس هنا رفقته , فقال بأنه لا ينصحني بذلك فهم يتهمونه بإفساد الشباب  و لهذا حضر إلى هنا, تعجبت و قلت له من هؤلاء الذين يقولون , و من أنت ؟ جلس و بدأ في الحديث فقال :
" قومي يتهمونني بذلك , لذلك قتلوني , أما من أنا فهذا سؤال له إجابات عديدة كلها فلسفية , سأختار أسهلها و أقول بأني سقراط  , و أنت من تكون و مالذي ألقى بك هنا في بقعتي "

عجباً أنا في حضرة سقراط عظيم فلاسفة اليونان قلت له :
" مرحباً يا سيدي سررت بلقائك كثيراً , و لسؤالك أنت أيضاً إجاباتٌ عديدة سأختصرها و أقول بأن اسمي أحمد , أما ما رماني هنا , فهو العجز يا سيدي , أسئلة كثيرة دارت برأسي فخرجت إلى هنا أفكر "
- " و فيما تفكر؟!"

-" في كل شيء , في الدنيا و في الحياة , و فيها"

-" فيها؟! , أوتدري لقد ظننت للحظة بأننا متشابهان , فكلانا نبذ قومه و اعتزل بنفسه , لكنك بددت كل شيء بقولك فيها"

-" عذراً يا سيدي , إن كان هذا وجه الإختلاف في نظرك فنحن لسنا بمختلفين , أنت هجرت قومك و حاولت فهم الدنيا و الدنيا مؤنثة , و أنت إذا ما أحببت فإن الدنيا كلها ستكون في كيان أنثى , و فضلت الفلسفة على الحياة , و كلاهما كلمتان مؤنثتان , و في فهم الأنثى فلسفة وحدها , و الحياة لا تسوى شيئاً بعيداً عن أنثى تحبها  , و قد أفنيت كل عمرك في البحث عن الحقيقة , و الحقيقة مؤنثة , و لن ترى الحقيقة إلا في عيني فتاة أحببتها في لحظة صفاء كنتما فيها لوحدكما ".

-" ولماذا تفكر فيها بدلاً من الذهاب إليها و المصارحة بما في خاطرك ".

-" لهذا كنا متشابهين , فأنت قد فضلت الموت على الحياة بلا فلسفة , فالحياة بلا فلسفة لك ستكون كالموت , و الموت في سبيل الفلسفة لك حياة , و أنا قد اخترت أن تكون مشاعري ميتة في الظاهر حية بداخلي , خير من أن أخرجها للحياة و أموت أنا , فضلت أن أكتم مشاعري على أن أعترف بها ثم أرى مشاعرها تخرج لشخصٍ أخر , سيكون هذا الشيء أمر مائة مرة من شرب السم كما فعلت أنت".

خرجت منه كلمة غاضبة قالها :" اللعنة , أردت أن أحظى بساعة صفاء فجئت أنت من حيث لا أدري و أفسدتها يا بني , هل أنت فيلسوف من زمنٍ ما ؟"

أجبته و قلت :" كنت فيلسوفاً عاطلا عن العمل في زمني , و لهذا هجرته و جئت إلى هنا , و لكن وجودك هنا لن يعطيني فرصة" , قمت من مكاني و نفضت التراب عن ثيابي و قلت :
" أنا راحلٌ الأن سأقصد زمن أخر , ربما تكون فيه حبيبة لي , أو ربما تشغلني الحرب عن التفكير فيها ".


السبت، 5 مارس 2016

براد شاهي 8

حسنا يجب علي الاعتراف , قد مر وقتٌ طويل منذ أن استعملت هذه المشاعر لدرجة أن تحريكها أثار زوبعة من الغبار و الأتربة بداخلي , كنت قد قررت إقفال هذا القسم من عقلي نهائياً , و تحويله إلى مخزنٍ تضع فيه الأقسام الأخرى حوائجها و مستنداتها , حولت أوراق قلبي إلى لجنة التخطيط حتى يتم النظر فيما سيتم استعمال هذا العضو المسبب للمتاعب و رميت براد الشاي في مكانٍ ما في المطبخ , كل شيء على ما يرام , فترة استقرار و رخاء جاءت بعد ثورة قمت بها على هذه المشاعر الغاشمة الظالمة ,تخللت تلك الفترة بعض الإصدارات الغير الرسمية "لبراد شاهي" و عدم الاكتراث بالجنس الأخر كنوعٍ من استعراض القوة ,  لكن في نقطة ما تغير كل شيء و انقلب , دخلت عناصر إرهابية و توغلت بداخلي حتى سببت زعزعتاً أمنية و شكلت خطراً على الاستقرار الداخلي .

بدأت الحكاية منذ فترة ليست بالبعيدة عندما رأيتها للمرة الأولى , يجب علي القول بأنها لم تكن فائقة الجمال حينها , كانت فتاة عادية المظهر من النوع الذي يمكن رؤيته في كل مكان , لهذا السبب لم تجذب انتباهي , فمالذي سيجذب انتباهي فيها ؟! , في البداية كانت الإجابة لا شيء , هذه الإجابة سقطت بعد أول نقاشٍ معها , نعم نقاش و ليس حديث , تبادلنا الأفكار في عدة مواضيع , لها طريقة تفكير مثيرة للاهتمام , كذلك شخصيتها , ربما ليست هذه الطريقة التي يتحدث فيها فتاة و شاب كلاهما في مطلع العشرينيات من عمرهما, لكن هذه الطريقة و هذا النقاش قد بدلا الكثير , لقد جذبتني أفكارها إليها , هل هذه عادتي ؟! لا لم أعتد حدوث هذا الشيء , إن النظام الذي أسقطته قبل مدة تسلل و عاد من جديد بوجهٍ جديد, فأعادت لجنة التخطيط عضو القلب إلى عمله على وجه العجل , فُتح قسم المشاعر بعقلي من جديد , عدت إلى نقطة الصفر بل و ربما قبلها بقليل , جعلتني أفكارها و أسلوبها أُبصرها , توافدت الأسئلة بمجرد عودة قسم المشاعر إلى العمل , هل كان شعرها جميلاً هكذا عندما رأيتها للمرة الأولى , هل كانت بهذا الجمال أم أن شيئاً ما حدث , هل زارتها أفروديت من أساطير الإغريق و زادتها جمالاً في ذات ليلة لتزيد شقائي ؟, سأقول بأني انتبهت لجمال عينيها و روعتهما , و لو كان أمر زيارة أثينا حقيقة فإنها لم تعدل فيهما شيئاً , لا حاجة لها بتعديلهما .

عدت إلى المتاهة القديمة و إلى الجدال الأزلي بداخلي , هل أخبرها عن ما بداخلي , أو اُبقي ما بداخلي في داخلي , عادت الأغاني القديمة لتُعزف مجدداً في غرفتي , أضيفت عليهم أغنية جديدة دلني عليها أحدهم يقول مغنيها :
" لمن نشكي حالي يالي شغلتي بالي
نبات سهران ليالي نفكر فيك "
سمعتها مرة و أعدتها مرات , انه يصفني , يتحدث عني ,  أخافني الشعور بأن هذا المغني يعرف ما بداخلي, ماذا لو كان كل من حولي يعرفون ؟!  , ماذا لو كانت هي تعرف ؟! , اااه انه أمر متعب , أحتاج لبعض الشاي حتى أفكر فيه ....... أين وضعت برادي ؟!

الجمعة، 4 مارس 2016

يا أبي (خاطرة)

من دون سابق مقدمات و دون أي إنذارات قبلها , حل بي شوقٌ إلى لمة الأهل في البيت , في هذا اليوم كان الإشتياق كبيراً , أكبر من أي يومٍ مضى , كان لابد لهذه الحنين أن يكون مصحوباً بموسيقى تصويرية , و كالعادة لن أجد أفضل من اليوتويب مصدراً , بدأت السهرة الفنية صحبة الفنان إبراهيم الصافي , و تركت اليوتيوب يغير الأغاني لوحده , و أنا أفكر في كل ما فات و كل ما سيأتي , و الخوف كل الخوف مِن ما سيأتي , تلت فقرة الصافي فقرة للرائع أحمد فكرون بعنوان المدن الكبيرة , لم أعلم قبلاً بأن هذه الأغاني ستكون ذات نكهة أخرى في الغربة , لم أعلم بأن كل ثانية فيها ستكون ذات تأثير على كل كياني , بعد فكرون أتى دور مغنٍ أخر لم يسبق له أن إعتلى مسرحي قبلاً , تركت كل شيء و انتبهت له , كان المغني ناصر المزداوي أما الأغنية فكانت شنطة سفر , هو حتما سيتحدث عن كل شيء أشعر به ,  عشت مع موسيقى الأغنية و كلماتها حتى وصل إلى فقرة قال فيها: "كيفك يا أمي كيفك يا بوي " , هنا انقطعت علاقتي بالأغنية و بدأت في التفكيرفي هذا الشخص الذي ذكره , لا ليست أمي , فأمي أحداثها في كل يومٍ تقريبا , لكن بوي هو من فكرت فيه , ترى كيف حاله و ابنه الوحيد يعيش بعيداً عنه , كم اشتقت لصوته و رؤيته , كم أحسست بالذنب على كل يومٍ ضعيته بعيداً عنه في بنغازي , لجوءٌ سريع إلى الفايبر و البحث عن اسمه ثم إتصال , جاء صوته من الناحية الأخرى كما عهدته دوماً عندما يرد على الهاتف :
-"الو السلام عليكم"
-"و عليكم السلام و رحمة الله , خيريابابا كيف حالكم" ,  بابا .دائماً ما كنت أسرق هذه الكلمة في كل مرة أكلمه فيها , و كأني أشعر بالخجل منها .

-" الحمد لله بخير كيف حالكم  انتوا و كيف حال اللي معاك ".

-" نحن بخير يا أبي و من معي بخير , لكن أنا أعاني ".

بصوت أبٍ خائف قال :" شن فيه"

-" ابنك يشتاق لك يا والدي , لا أصدق بأن 5 أشهر فقط مرت على فراقكم , لقد كانت خمس سنواتٍ علي , تذكرت في الصباح وصيتك لي يوم وقفنا في المطار , (دينك , أخلاقك , علمك) , كان هذا أخر ما وصيتني به , و على عكس كل مرة كنت توصيني على شيء فأتي أنا بعكسها , هذا المرة مازلت تحت توصيتك , مازلت أسمع صوتك في كل يوم أستيقظ فيه يوصيني بهذه الثلاث , لقد عرفت اليوم يا أبي قيمة كل مرة نهرتني فيها عن شيء بالقوة , عرفت قيمة كل ما كنت تفعله , قيمة صراخك  و غضبك , قيمة عطفك و حنيتك , قيمة كل كلمة قلتها لي عندما سألتك عن شيء ,  لقد أردت أن تربي رجلاً يعتمد على نفسه يوماً , و هاقد جاء اليوم يا أبي , بالمناسبة لقد أريت بعض الصحب صورة لك , كلهم أجمعوا بأني اشبهك كل الشبه , لا تدري كم أسعدتني هذه الكلمات , فاليوم قد اكتشفت أي أنسان عظيمٍ أنت , اليوم لم أعد أتمنى شيئاً سوى أن أستمر على دربك و أكون مثلك , اليوم صرت أتمنى أن أكون أنت , و أدركت أيضا يا أبي بأنني و ان صار عمري اثنان و عشرون عاماً أو حتى اثنان و سبعون , فسأظل ذاك الطفل الذي جاء في شتاء عام 1994 , سأظل ذاك الذي زحف على الأرض ليرتمي في حضنك و إن فرقتنا المسافات فستكون دوما معي هنا , فيكفي بأني في كل مرة سأكتب فيها إسمي سألحقه بعمران بن عمران "
لم ينطق أبي و طال سكوته , نظرت إلى هاتفي فوجدته قد نفذ من الشحن وقرر أن ينهي لوحده هذه المكالمة التي ربما لم يحتمل كمية العواطف الكامنة بها .



الثلاثاء، 1 مارس 2016

في الغربة (2)

مرة أخرى أجد نفسي في هذا المقهى , كراسيه و طاولاته , نوافذه و أضواءه .. كلها أشياء جميلة احتضنتني بداخلها و احتوتني , سمعاتٌ في أذني و مسرح اليوتيوب أمامي , دخل شابٌ أسود الشعر يحمل معه قيثارة , و أنا أجلس على طاولة الحكام التي لم يكن عليها حكمٌ سواي , قلت للشاب أن عرفنا بنفسك فقال :" عبد الرحمن محمد" , فقلت هيا فلتبدأ يا عبد الرحمن , جلس هذا العبد الرحمن على كرسي وُضع في منتصف المسرح و بدأ يعزف على قيثارته ثم غنى :
"أصابك عشقٌ أم رميت بأسهمِ
فما هذه إلا سجية مغرمِ".
زررت على البزر الأحمر الموجود أمامي , كذلك زررت على بزر نجوى كرم و أحمد حلمي و وائل جسار و كل من جلس كحكمٍ في يومٍ من الأيام و صحت قائلا : "بحق كل ما أمن به الناس فلتصمت , لا أريد مثل هذا الغناء هنا , لا ليس على مسرحي يكفي ما فعله شابٌ قبلك يدعى سعد غنى عن حيرته و لمن يشكي حاله , اخرج من هنا ولا تعد من جديد".

خرج هذا الشاب و دخل بعده شخصٌ أخر , لم يكن شاباً بل كان الشيب قد أكل ما أكل من شعره الطويل و لحيته الكثيفة , دخل حاملاً عوداً في يده , العود إشارة غير جيدة فلطالما عذبتني هذه الألة بصوتها , طلبت منه الجلوس و التعريف بنفسه فأجاب بأن اسمه مارسيل خليفة , قلت له فلتطربنا يا مارسيل , جلس و على وجهه خوفٌ بعد أن سمعني أصيح في من سبقه , عدَّل عوده قليلاً ثم بدأ في الضرب على أوتاره بهدوء و أخيراً غنى :
" أحن إلى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي"

ثلاثة أسطر كانت كافية لي أن أترك المسرح و أسرح بخيالي بعيداً عن هنا , نعم لقد أحدث العود ذاك التأثير الذي خفت أن يُحدثه , لم أنتبه لما حولي إلا عندما بدأ الجمهور يصفق بقوة , مُحدثاً صوتٌ و صدى صوتٍ جليلين , نظرت ثم رأيت فوجدت بأن مارسيل قد أكمل غنائه و ينظر لي بخوف , جمعت كلماتي في رأسي و قلت له :" لقد ضربتني في مقتلٍ يا مارسيل قل بحق السماء من قال لك بأن تغني هذه الأغنية في هذا اليوم؟! , نعم أنا أحن إلى أمي و خبزها و قهوتها , أحن إلى لمسة أمي , و إلى أم أمي و إلى أخت أمي ,و كل أهل أمي أحن إلى أبي و إلى حرصه و عطفه , إلى حنيته و غضبه , كم أزعجني غضبه لكني كنت أحمقاً , لم أدرك أنه يفعل كل هذا ليصنع مني رجلاً , بالله عليك إذا ما قابلتهم عند خروجك قل لهم بأني أحن لهم .
لقد عذبتني و ذكرتني بكل مواجعي في بضعة دقائق يا ابن خليفة , نعم اشتقت لأمي و حنيت لها و أمي يا مارسيل ليست واحدة بل اثنتان , أحن إلى بنغازي و شرب القهوة فيها على إيقاع موسيقى الحرب رفقة مجموعة من الناس كانت كإخوة لم تنجبهم لي أمي , أحن إلى لفظٍ شوارعي خرج مني لحظة إنقطاع الكهرباء في يومٍ صيفيٍ حار, أحن إلى الخروج رفقة ذاك الأعمى في سيارته عندما كان شابٌ تونسي جاء من ريف تونس لعاصمتها يغني عن أحواله هناك نسمعه قليلاً فيقول لي ذاك الرفيق بأنها ستصبح أغنيتي عندما أسافر , كم جلسنا تحت الشجرة في شارعنا و سمعني أشكي لساعات أحياناً , لقد كانت مستمعاً في زمنٍ لم أجد فيه من يستمع قل له يا مارسيل بأني مازلت اسمع هذه الأغنية و كل الأغاني في كل مرة أتذكره فيها , أحن إلى الوقف أمام بيت بدين بوهديمة و تحت شباكه منتظرا اياه في رمضان عندما كنا نخرج لنتقاسم كل شيء , من ثمن الكورسا التي سنأخذها إلى ثمن القهوة و لوازمها و قل له باني لم أجد من أتقاسم ثمن القهوة معه هنا , أيضاً لم أنسى تلك الكتب التي تركتها عنده , الورم و باط مان , و بأني سأغني يوماً (أنا جيت زاير زاير ) , ذكرتني أغنيتك بأخٍ أخر يدعى خالد , هو فعلاً خالد , خرجنا لأيامٍ في سيارته التي لا يوجد مثلها إلا خمسة في كل بنغازي , جمعتنا القهوة كثيراً و جمعتنا أوقات ضحكٍ و مرح لم أجد مثلها حتى الأن , جمعتني به أغانٍ كانت تعاد في كل مرة , و كم من مرة أزعج فيها كل من حولنا مِن جيرانٍ بصوت (بيابة سيارته) المزعج , بلغه أيا مارسيل بأني لم أمسك يدها ل(نعدي) الشارع بعد , لم أخذها للسينما و جعلت الفشار لنفسي , مازلت أبحث عن لقطة أجعل فيها نفسي كبطل ذاك الفيلم .

اخرج يا مارسيل و احمل معك كل ما قلته لك و قله لهم , اخرج سامحك الله ذكرتني بما كنت أحاول نسيانه , اخرج و اذهب لهم و اتركني هنا في الغربة