الأحد، 3 أبريل 2016

حياة العكب


دعوتها في هذا اليوم إلى شرب فنجانٍ من القهوة معي , تطلب الأمر مني ساعاتٍ حتى عرفت معنى كلمة (نعزمك) بالإنجليزي أدخلتها مراتٍ على القوقل و حار فيها الشيخ العالم حتى اكتشفت مصادفة بأن (نعزمك) هي النسخة الليبية لفعل (أدعوك) , و أن أدعو شخصاً لشرب القهوة معي هذا شيءٌ نادر الحدوث , فبيني و بين القهوة أسرارٌ كثيرة , بيني و بينها محرابٌ سري لا يجلس فيه سوانا , و إن دعوت أحداً لهذا المحراب فأنا أراه تكريماً مني لهذا الشخص , و رفض الدعوة أو جعل قبولها إحتمالاً كما فعلت هي أراه يحمل بعضاً من الإهانة لقداسة محرابي .
ذهبت أنا إلى محرابي , أقصد إلى المقهى الذي إعتدت الجلوس فيه طلبت كوباً واحداً من القهوة و إنتظرتها , دقيقة .. إثنان.. ثلاثة ... خمسة عشر .. نصف ساعة , أخرجت من حقيبة ظهري كتاباً أقرأه بعد أن قلت بأنها لن تأتي , لكنها قررت القدوم بعد قلبي لثاني صفحة من الكتاب , رحبت بها و جلست أمامي بشعرها الأسود الممتزج بشيءٍ من الأصفر , بقميصٍ كان لونه أزرقاً زرقة البحر , لا أذكر متى بات الازرق أجمل الألوان عندي , طلبت لها كوباً من القهوة و قطعة من كيك الجبنة (تشيز كيك بلغة الفرنجة) , رغم أني لا أفعل ذلك عادة , سألتها عن سبب تأخرها فقالت بأنها كان تكتب عن زهى حديد و تشاهد بعضاً من أعمالها , ثم قالت :

"it's too sad that she died ,isn't it"

تطلب الأمر من مترجم الوافي بعقلي بضع لحظات حتى أدركت بأنها تعبر عن حزنها لوفاة زهى و تسأل إذا ما كنت أشعر بهذا الحزن فقلت لها بأني لا اشعر بذلك الحزن , تعجبت من ذلك و قالت بأن رحيل زهى هو خسارة لكل العالم , قلت لها
:" لماذا تكون خسارة , هي قدمت للعالم مشاريع معمارية جميلة لكنها نالت أموالاً لقاء أتعابها , ألم تسمعي عن أخر مشاريعها التي طلبت مقابله مبلغاً خيالياً , ثم ما نفع أن نضعن مبانٍ جميلة في بضعة أماكن من الأرض بينما يظل باقي الأرض صحراء قاحلة يموت فيها سكانها كل يوم , ثم إنها قالت يوماً بأن الغرب حاربها لكونها عربية و العرب حاربوها لكونها إمراة , أنا عربي ولم أحاربها يوماً, في الواقع قد كنت أقدرها قليلاً قبل سماعي لهذه الجملة , فهي ثارت على كل العادات , أصبحت أول إمرأة تنال إحدى جوائز العمارة , حطمت بعض العادات التي كانت عندنا نحن العرب كونها إمرأة خرجت من مجتمع يؤمن بأن المرأة لا تستطيع تحريك حجرٍ من الأرض , هي ثارت حتى على بعض مباديء العمارة التي تقول بأن العمارة أساساً تعتمد على الوظيفة لا الشكل , و هي قد جائت بعكس هذا , جائت بمشاريع كان الشكل فيها أهم من الوظيفة , لكن في النهاية أنا لم أستفد منها شيئاً كذلك غالبية سكان الأرض لهذا لا أشعر حقاً بالحزن كما يفعل كثيرون اليوم , منهم من لم يعرف من هي زهى قبلاً لكنه رأى بأن العالم يتحدث عن وفاتها فأحس بأنها شخصية هامة , و منهم من ألمته لكونها عربية فقط ".
قالت :" ألا يكفيك كونها مبدعة ؟"
-"هذا العالم مليء بالمبدعين لكن بعضهم لم تتح له الفرصة فقط , من يدري ربما إذا ما أعطينا طفلاً صوماليا فرشاة و ألوان لرسم لوحة أجمل بكثير من بضع التفاهات التي نراها تباع اليوم بملايين الدولارات , و لربما قدم هذا الفتى للعالم فائدة أكبر و أهم , لو أنه نال فقط بضعة عدسات تصويرٍ أمامه , هل سمعتي يوما عن (إحميدة العكب)؟".

سألت بإستغراب :
" who's hmaida alakab, and what's the meaning of alakab".

أدركت بأني قد أوقعت نفسي في فخٍ لم أنبته له ,كيف سأترجم لها معنى العكب , فقلت لها بسرعة حتى أنقذ نفسي بأنه :
"إسم و الأسماء لا تترجم , و العكب هذا جارنا في بنغازي ".

قالت :" أنا أحدثك عن معمارية كبيرة و أنت تحدني عن جاركم ".

قلت لها :" مهلك علي يا حفيدة أتاتورك , فالعكب هذا كان عالماً بل عالماً كبيراً أيضاً , إنه كميائيٌ معروف في حيينا ".

فسألت بلهفة :" جاركم عالم كيمياء ؟ , أي نوع من الكيمياء , هل هي حرارية أم كيمياء علم الكم "

فأجبتها :" هو عالم في كيمياء علم الكيف , عُرف هذا العكب بأفضل أنواع القرابا في بنغازي , و القرابا هي الخمر منزلية الصنع , يشرف عليها بنفسه و لم يشكو أحداً يوماً من قرابته لا حالات تسمم ولا شيء , كما أنه أيضا يبيع طروف الخمسة و العشرة , و لم يقل أحداً بأنه قد إشترى طرفاً مغشوشاً منه , حتى وسط إرتفاع كل الأسعار ظلت أسعار العكب و منتجاته كما هي لم تنقص و لم تزيد ليظهر بذلك مقدار وطنتيه و بأنه غير إستغلالي, و من دخن بفرة لفها العكب بنفسه لن يدخن بعدها بفرة من أحدٍ أبداً , فالعكب فنانٌ في اللف , و على عكس زهى قد إهتم العكب بالوظيفة لا المظهر , فبفرته ذات مفعول سريعٍ سرعة الضوء بل و أسرع ".

سألتني :" و أين هو هذا العكب ؟".

قلت لها بصوتٍ حزين :" لقد مات العكب بعد أن إنفجرت إحدى أنابيب الغاز في بيته بينما كان يعد قرابته , مات بينما كان يؤدي وظيفته في تحضير مهدئات للشعب و قد ضُم لقائمة شهداء الواجب الذين ماتوا أثناء تأدية أداورهم في المجتمع , مات و خلف ورائه سمعة طيبة في كل الحي بل و ان سمعته في المدينة لأنظف من سمعة السياسيين فيها , و مزال السكارى و المزاطيل يترحمون عليه في كل يوم بعد أن حُرموا من مهدئاته و إضطروا لأخذ البضاعة المغشوشة ".

سألتني:" و كيف تعرف كل هذا عن العكب , هل سبق و جربت شيئاً من عنده".

قلت لها بسرعة :"إذكروا محاسن موتاكم , و لنغير الموضوع بسرعة قبل أن أصير أنا أيضاً في عداد الموتى  من قبل الرقابة".

النهاية

ملاحظة : لو قرأت هذه الكلمات و انت من الرقابة فهذا الحوار وهمي بكل مافيه من الفتاة للعكب وكل ماذكر فيه عارٍ عن الصحة أما إذا كنت من من حُرموا من خدمات العكب فراسلني على الخاص حتى أعطيك أرقام موزعين معتمدين لما تبقى من منتجات العكب و من تعلموا الصنعة على يده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق