السبت، 23 أبريل 2016

في بنغازي


سألتني تلك الشقراء حفيدة كمال أتاتورك و نحن نجلس في قاعة المحاضرات ننتظر قدوم الدكتورة , قالت لي حدثني عن بنغازي .

" قد مرت أشهر على رؤيتي لبنغازي أخر مرة , و قد شوهتها الحرب في أخر مرة رأيتها , فسأحدثك عن ما رأيته قبل الحرب , في الصباح بنغازي جملية تعانق الحياة و ترقص معها وسط زحام وسط البلاد , و في الليل ترقد بسلام جانب السهارى , في بنغازي رجلٌ كبيرٌ في السن خرج يبحث عن رزقه خلف مقود سيارته , يركب معه شابٌ يقصد الجامعة طلباً للعلم و لشهادة يعمل بها , يتبادلان في الطريق أطراف الحديث و عند الوصول يحلف الشايب للشاب بأن يبقي ثمن الكورسا في جيبه إن لم يكن معه غيره و يحلف الشاب للشايب بأن يأخذ الدينار و النصف فمعه غيرها رغم أنه لا يمتلك إلا ثلاثة دنانير و نصف غيرها , سيشتري لاحقا بدينارٍ قرطاس الأمريكانا و بنصفٍ كوب مكياطة  , و يعود إلى بيته و يشتري بعض الخبز بما تبقى , و الشايب بحاجة الدينار و النصف فمن الصباح لم يجد كورسةً أخرى , لكن في نفوس أهل بنغازي بعض العصرنة , فحتى المحتاج لا يبوح بحاجته , في بنغازي شيبٌ إعتادوا منذ سنواتٍ الجلوس بقهوة لبدة أو بالمقهى الرياضي , يقضون ساعات الصبح بين مقاعدهما , كل الوجوه هناك تعرف بعضها , و من الوجوه فقط تقرأ قصصاً لتاريخٍ قد مر و ولى , في بنغازي شبابٌ وقفوا ليتناولوا فطوراً , و عند الفطور في بنغازي تجد أمامك خياراتٍ ترضى كل الأذوق , فعبد الغفار بتنه و (دحيه) , و حميد بفوله و حرايمه و مشكله , و ال بولفية بمفرومهم , و ملك الفاصوليا إحميدة بفاصوليته الشهيرة , ختم دخولك لبنغازي لا تأخذينه من مطارها بل من أحد هذه المطاعم , و كما يقول المصريون بأن من يشرب من النيل سيعود إليه من جديد , فمن يأكل من هذه المطاعم حتماً سيعود طلباً للمزيد فلن يجد مثل هذا المذاق أبداً , في بنغازي وقت الصباح طلبة جلسوا في مدارسهم ينتظرون إنتهاء دوامهم و أخرون منحوا لنفسهم يوم إجازة يقال لهم معكسين , ينتظرهم عقابٌ شديد صباح اليوم التالي إذا ما إنتبه لهم أحد المدرسين , لكن هكذا أهل بنغازي يحبون خوض المخاطر مدام في الأمر بعض المتعة , في بنغازي وقت الظهيرة يصطف أولياء الأمور أمام المدارس ينتظرون خروج أبنائهم , يقف بعض الشبان أمام إحدى مدارس البنات يسترقون النظر ,بعضهم ينتظر فرصة  ليرمي ورقة بها رقمه و يعود إلى مكانه لينتظر ردة الفعل كصيادٍ القى صنارته و جلس منتظرا خروج سمكة و بعضهم جاء فقط ليراقب أو (يكحل) بمسمانا الشعبي , و أي كان من أطلق هذا المسمى على هذا الفعل فهو رجلٌ بليغ , شبه مراقبة الشاب لفتاة بمن يكحل عينه و يزينها , و في بنات بنغازي توزع جمال الحسناوات الثلاث , في بنغازي وقت الظهيرة لا تشم شيئاً سوى رائحة الطعام الخارجة من كل المطابخ , كل رائحة تحكي لك قصة صاحبة البيت و روعة طبخها , في ما بعد الظهيرة تنام بنغازي بعد أن تناولت وجبة الغداء و شربت بعدها طاسة من الشاهي في عادة بدأت تختفي في بعض المنازل , فبنغازي تدمن شرب الشاهي , تشربه في إفطار عزائزها صباحاً , و بعد غدائها و عشائها , تُقيل بنغازي حتى أذان العصر , تسكن المدينة فلا تسمع فيها شيئاً سوى أصوات بضعة أطفال خرجوا يلعبون الكرة أحيانا و البطش أحياناً , و أحياناً يخرجون في جولة بسيارة يقودها طفلٌ نجح في خطف مفتاح السيارة من جيب والده أثناء نومه , و في أحد الشوارع الخلفية مجموعة مراهقين حصلوا على سبسي واحد فبات يدور بينهم و كانت حينها (تديخنة جو) , بعضهم سيكبر قليلاً و يترك هذا الجو و أخرون سيدمنونه ,  تستيقظ بنغازي شيئاً فشيئا بعد أذان العصر فتبدا جراجات المحلات بالإرتفاع و تعود الحياة بالتدريج إلى المدينة , و تمتلئ الطرق بسيارات الخارجين كلٌ إلى وجهته , شابٌ يحاول اللاحق بتقويته , أخر يسرع ليفتح محله و يسترزق , خلفهما شابٌ ثالث خرج يقصد مقهى يجلس فيه حتى يحل المساء ينظر الأن في سيارة بجانبه بها عائلاتٌ خرجت ربما لزيارة بعض الأقارب و ربما للتسوق و قد تكون خرجت فقط لأنها تريد الخروج , في بنغازي مهما كانت درجة الحرارة فستجد من يجلس على المقاهي بكل أنواعها  , و عندما يحل الليل يكون لبنغازي لونٌ أخر , في بنغازي شوارعٌ تتسع للشباب بإختلاف أنواعهم فهناك البيبسي و دبي و هناك العقيب و أزقة البلاد , و هناك من لا يحب الشارع فيظل في قهوته التي جلس فيها منذ العصر , تتناول بنغازي العشاء من أحد مطاعهما , أحيانا تقرر الجلوس في المطعم و أحيانا تأخذ أكلها و تقصد بيت أحد الأصدقاء أو تخرج للجلوس به على الكورنيش أو عند الكابترانية , هناك تجدين شيخاً يجلس يتأمل سكون البحر و يسبح ربه , و شاعراً يكتب قصائد عن محبوبته و يلقيها على البحر ليأخذ رأيه فيها , و سكرانٌ قادته سكرته إلى هناك فجلس يستمع للصافي عند البحر , و خلف كل هؤلاء متصوفٌ جلس بزاوية الرفاعية يررد بعض المدائح و يعيش في عالمٍ أخر , كل منهم يجلس لوحده , لكنه ليس حقاً لوحده , فبحر بنغازي ينصت لهم , ينصت لتسبيحات الشيخ و كلمات الشاعر , و ترقص أمواجه مع كلمات الصافي و مدائح المتوصف , كذلك يفعل إخريبيش و المنارة , و كل بنغازي , فبنغازي لوحة جمعت كل نقيضٍ في العالم فكان هذا التناقض سر جمالها , لهذا غنى الصافي و قال : تغربت و شفت بلادات إلا هيهات لبنغازي ما لقيت خوات .
هذه هي بنغازي يا بنت تركيا فحدثيني عن مدينة عندكم بهذا الوصف إن كان عندكم مثيلٌ لهذا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق