الثلاثاء، 1 مارس 2016

في الغربة (2)

مرة أخرى أجد نفسي في هذا المقهى , كراسيه و طاولاته , نوافذه و أضواءه .. كلها أشياء جميلة احتضنتني بداخلها و احتوتني , سمعاتٌ في أذني و مسرح اليوتيوب أمامي , دخل شابٌ أسود الشعر يحمل معه قيثارة , و أنا أجلس على طاولة الحكام التي لم يكن عليها حكمٌ سواي , قلت للشاب أن عرفنا بنفسك فقال :" عبد الرحمن محمد" , فقلت هيا فلتبدأ يا عبد الرحمن , جلس هذا العبد الرحمن على كرسي وُضع في منتصف المسرح و بدأ يعزف على قيثارته ثم غنى :
"أصابك عشقٌ أم رميت بأسهمِ
فما هذه إلا سجية مغرمِ".
زررت على البزر الأحمر الموجود أمامي , كذلك زررت على بزر نجوى كرم و أحمد حلمي و وائل جسار و كل من جلس كحكمٍ في يومٍ من الأيام و صحت قائلا : "بحق كل ما أمن به الناس فلتصمت , لا أريد مثل هذا الغناء هنا , لا ليس على مسرحي يكفي ما فعله شابٌ قبلك يدعى سعد غنى عن حيرته و لمن يشكي حاله , اخرج من هنا ولا تعد من جديد".

خرج هذا الشاب و دخل بعده شخصٌ أخر , لم يكن شاباً بل كان الشيب قد أكل ما أكل من شعره الطويل و لحيته الكثيفة , دخل حاملاً عوداً في يده , العود إشارة غير جيدة فلطالما عذبتني هذه الألة بصوتها , طلبت منه الجلوس و التعريف بنفسه فأجاب بأن اسمه مارسيل خليفة , قلت له فلتطربنا يا مارسيل , جلس و على وجهه خوفٌ بعد أن سمعني أصيح في من سبقه , عدَّل عوده قليلاً ثم بدأ في الضرب على أوتاره بهدوء و أخيراً غنى :
" أحن إلى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي"

ثلاثة أسطر كانت كافية لي أن أترك المسرح و أسرح بخيالي بعيداً عن هنا , نعم لقد أحدث العود ذاك التأثير الذي خفت أن يُحدثه , لم أنتبه لما حولي إلا عندما بدأ الجمهور يصفق بقوة , مُحدثاً صوتٌ و صدى صوتٍ جليلين , نظرت ثم رأيت فوجدت بأن مارسيل قد أكمل غنائه و ينظر لي بخوف , جمعت كلماتي في رأسي و قلت له :" لقد ضربتني في مقتلٍ يا مارسيل قل بحق السماء من قال لك بأن تغني هذه الأغنية في هذا اليوم؟! , نعم أنا أحن إلى أمي و خبزها و قهوتها , أحن إلى لمسة أمي , و إلى أم أمي و إلى أخت أمي ,و كل أهل أمي أحن إلى أبي و إلى حرصه و عطفه , إلى حنيته و غضبه , كم أزعجني غضبه لكني كنت أحمقاً , لم أدرك أنه يفعل كل هذا ليصنع مني رجلاً , بالله عليك إذا ما قابلتهم عند خروجك قل لهم بأني أحن لهم .
لقد عذبتني و ذكرتني بكل مواجعي في بضعة دقائق يا ابن خليفة , نعم اشتقت لأمي و حنيت لها و أمي يا مارسيل ليست واحدة بل اثنتان , أحن إلى بنغازي و شرب القهوة فيها على إيقاع موسيقى الحرب رفقة مجموعة من الناس كانت كإخوة لم تنجبهم لي أمي , أحن إلى لفظٍ شوارعي خرج مني لحظة إنقطاع الكهرباء في يومٍ صيفيٍ حار, أحن إلى الخروج رفقة ذاك الأعمى في سيارته عندما كان شابٌ تونسي جاء من ريف تونس لعاصمتها يغني عن أحواله هناك نسمعه قليلاً فيقول لي ذاك الرفيق بأنها ستصبح أغنيتي عندما أسافر , كم جلسنا تحت الشجرة في شارعنا و سمعني أشكي لساعات أحياناً , لقد كانت مستمعاً في زمنٍ لم أجد فيه من يستمع قل له يا مارسيل بأني مازلت اسمع هذه الأغنية و كل الأغاني في كل مرة أتذكره فيها , أحن إلى الوقف أمام بيت بدين بوهديمة و تحت شباكه منتظرا اياه في رمضان عندما كنا نخرج لنتقاسم كل شيء , من ثمن الكورسا التي سنأخذها إلى ثمن القهوة و لوازمها و قل له باني لم أجد من أتقاسم ثمن القهوة معه هنا , أيضاً لم أنسى تلك الكتب التي تركتها عنده , الورم و باط مان , و بأني سأغني يوماً (أنا جيت زاير زاير ) , ذكرتني أغنيتك بأخٍ أخر يدعى خالد , هو فعلاً خالد , خرجنا لأيامٍ في سيارته التي لا يوجد مثلها إلا خمسة في كل بنغازي , جمعتنا القهوة كثيراً و جمعتنا أوقات ضحكٍ و مرح لم أجد مثلها حتى الأن , جمعتني به أغانٍ كانت تعاد في كل مرة , و كم من مرة أزعج فيها كل من حولنا مِن جيرانٍ بصوت (بيابة سيارته) المزعج , بلغه أيا مارسيل بأني لم أمسك يدها ل(نعدي) الشارع بعد , لم أخذها للسينما و جعلت الفشار لنفسي , مازلت أبحث عن لقطة أجعل فيها نفسي كبطل ذاك الفيلم .

اخرج يا مارسيل و احمل معك كل ما قلته لك و قله لهم , اخرج سامحك الله ذكرتني بما كنت أحاول نسيانه , اخرج و اذهب لهم و اتركني هنا في الغربة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق