الأحد، 27 مارس 2016

على الرصيف 3


خارجٌ من محاضرتي دون أن أحدد مكاناً أقصده , تفصلني ساعةٌ عن المحاضرة الأخرى ولا مكان أقصده لقضاء هذه الساعة فيه , لمحت على الرصيف رجلاً دلت ملامح وجهه على أنه يعيش في هذه الدنيا منذ فترةٍ طويلة , يجلس عالأرض بزي عمال النظافة و عربة النظافة واقفة أمامه و في يده كتابٌ يقرأه , مشهدٌ جميلٌ إستحق في رأي أن تُلتقط له صورة فدنوت منه طالباً الإذن في تصويره:
"السلام عليكم يا عمي , هل تسمح لي بإلتقاط صورةٍ لك ؟".
أمسك اكتابه و قد ثبت الصفحة التي يقرأها بإصبعه و نظر نحي فقال:" لماذا ؟! هل تجده أمراً غريباً أن تجد عامل نظافة يقرأ؟"
أحسست ببعض الخجل من نفسي بعد هذا السؤال و حاولت أن أخفيه , شعر هو بذلك فحاول أن ينهي هذا الخجل قائلاً :
بدلاً من تصوير من يقرؤون في الأماكن العامة أو تصوير البسطاء من أمثالي يجب أن يُرى الأمر على أنه شيءٌ عادي , تصويركم هذا جعل الأمر يبدو و كأنه ظاهرة غريبة"
قلت له :" لكن الأمر يبدو فعلاً ظاهرة غريبة , فلن ترى في كل يومٍ عامل نظافة يقرأ"
طوى العجوز الصفحة التي كان يقرأها و أغلق الكتاب و قال :
" هل تملك بعضاً من الوقت لحديثٍ قد يطول و يكون غريباً من رجلٍ مثلي؟!"
أشرت له بأن نعم أملك الوقت فدعاني للجلوس و استجبت لدعوته , طوى , وضع كتابه جناباً و قال :
" إن عامل نظافةٍ مثلي يجب أن يقرأ , فحتى أحافظ على نظافة هذه الشوارع يجب أن يكون عقلي نظيفاً , ولا شيء أفضل من الكتب للمحافظة على نظافة عقولنا , فعقولنا شوارع و الكُتَّأب هم عمال النظافة في هذه الشوارع أما كتبته فهي أشبه بأدوات النظافة التي يجمعون بها الأوساخ , ولولا هؤلاء الكتاب و كتبهم لإمتلئت شوارع عقولنا بالأوساخ و التفاهات , أما عن سبب ندرة وجود هذا المشهد فهناك سران , الأول بأننا نشعر بالخجل من اهتمام الناس بنا عند القراءة , فلو مررت أنت من هنا و وجدت زميلاً لكيقرأ لما فكرت في أن تصوره , ربما لم تكن لتقطع خلوته مع كتابه كما فعلت معي , شيءٌ أخرٌ ألا و هو بأن ناشري الكتب باتوا يرون الأمر كتجارة لهم , فرفعوا أسعار الكتاب حتى بات ثمنها صعباً على أمثالي , و الحجة بأن الخامة مكلفة , باتوا يظهرون إهتماماً بغلاف الكتاب فيزنونه و يزخرفونه و هذا يعكس بأننا في زمنٍ تنظر فيه الناس لظاهر الأمور و تولي إهتماماً أكبر بها , و أخيراً أقول لك بأن الناس تقرأ لتعيش حياة أخرى لفترة , فالغني يقرأ قصصاً عن المعاناة ليذوق طعمها , و نحن نعيش هذه المعاناة في كل يوم فلماذا نقرأ عنها ؟ , بعض الكتب تحكي قصصاً عن الحب , و نحن نظهر هذا الحب في أفعالنا , أنا مثلاً أظهره في عودتي للبيت حاملاً كل متطلبات من هم في بيتي و أعيش لحظاتٍ من السعادة لفرحهم بعد يومٍ تملؤوه المعاناة ".
هنا نظرت لساعتي و أدركت بأنه يجب علي اللحاق بمحاضرتي و قبل أن أقوم صدمني شخصٌ من الخلف فأعادني لوعيِّ , و جدت بأن كل هذه المحادثة لم تكن إلا حواراً دار في عقلي و بأن الرجل مزال يقرأ , فرحلت تاركاً ذاك العامل على الرصيف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق