الجمعة، 18 مارس 2016

انا و مرقس


وجدت نفسي في غرفة حيطانها لم تكن بالغريبة علي , حتماً رأيت هذه الغرفة في إحدى حيواتي السابقة , هل كانت عندما جعلني توفيق الحكيم صرصاراُ أم تراها عندما صرت شابا عاش في عام 1919 ؟! , لا لا هذه الغرفة تبدو أقدم بكثير من أن تكون في القرن الماضي , بينما أنا غارقٌ في حيرتي دخل رجلٌ يرتدي ثياباً تعود إلى حقبة الرومان ربما , شعره أبيض و لحته بيضاء , بشرته قمحية تحمل تعابير وجهه هدوءٌ لم أشهده مثله قط , قمت من مكاني و سألته :" من أنت؟" .
إبتسم الرجل إبتسامة بسيط و قال :" ليلتزم كلٌ منا بدوره يا بني , انا من يجب ان يسأل هذا السؤال , فأنت تقف في غرفتي كما تشاهد ".
نظرت حولي في الغرفة بتمعنٍ فوجدت لوحة لسيدة يخرج من وجهه نورٌ غريب , صليبٌ معلق على الحائط بجوار الصورة و تحتهما في بروازٍ مذهب كانت هناك مخطوطة كتب عليها (ها انا ارسل امام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك
صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة) , قرأت هذه العبارة ثم رددتها بصوتٍ هامس , و نطق لساني بعدها فقال :" لقد قرأت هذه العبارة قبلاً , أليست هذه العبارة من إنجيل مرقس " .
نظر الرجل نحو الحائط ثم نحوي و ابستم ثم قال :" هي فعلاً من الكتاب المقدس , و يبدو أنك فتى متدينٌ يا بني , فحسب ما سمعت مؤخراً أنا أحدُ لم يعد يحفظ هذه الأشياء , و انا مرقس البشير كما يسمونني , لكنك لم تقل لي , أي الأسماء إختار لك الرب ؟ أو من أي بقاع الأرض أنت ؟".
أصابني بعض الحرج من التعريف بنفسي , فهذا مرقس الإنجيلي يظنني شاباً نصرانياً لكني قلت له :
"أحمد , إسمي أحمد و أنا من ليبيا ".
كانت علامات الذهول على وجه البشير واضحة رغم محاولته إخفائها لاحقا , دعاني للجلوس على حصيرة كانت في منتصف الغرفة و قال :" إذا أنت من أهل الإسلام , فلا يعقل أن تكون نصرانياً و يكون اسمك أحمد , لكن لا مشكلة في ذلك , فمن دخل داري صار ضيفي ".
ناولني قدرٍ فيه ماء و قرب مني طبق عنب كان على الحصيرة و قال
:" لقد سمعت بأن كل أهل ليبيا قد دخلوا الإسلام , و قد تظن بأن ذلك يزعجني , لكن لا , فليبيا أول مكان بدأت فيه دعوتي للمسيحية بشمال أفريقيا , و لي ذكرياتٌ طيبة مع أهلها , و في النهاية لا يهمني دين الشخص , المهم هو أن يكون مقتنعاً بدينه إقتناعاً كاملاً , عندما دخل قومك للديننا قبل ألاف السنين كانوا قد دخلوا عن إقتناع , كذلك فعلوا عندما جائتهم دعوة محمد , لكن المشكلة بأنهم لم يعودوا مؤمنين اليوم , نعم مازلت أتابع أخبار ليبيا بين الحينة و الاخرى , عندما أنظر اليوم إلى شعبها , أجد غالبية تصلي و تصوم لكن صلاتهم و صومهم بات أشبه بعاداتٍ تناقلوها جيلاً بعد جيل , وجدت عندكم أباءً يحذرون أبنائهم من شرب الخمر مثلا خوفاً من أن يقول الناس أن ابنه صار سكيراً , هو لم يخشى معاقبة الرب له لأنه لم يستطع تربية ابنه المسؤول عليه لكنه خشي كلام الناس , نعم شرب الخمر عندكم صفة منبوذة , لكنكم تفعلون أشياء أخرى ذات إثم في دينكم , كالنميمة و الغيبة , و كأنكم قرأتم النص الذي يحرم الخمر لكنكم لم تقرؤا النص الذي يقول بأن النميمة و الغيبة كأكلك للحم إنسان , هل تعرف ما سبب المشكلة ؟!".
حدقت في وجهه قليلاً و قد إرتسمت على وجهي ملامح الحيرة , و بعد أن فكرت قليلاً قلت له
:" المشكلة بأنه كما قلت أنت ,أن الدين بات عادة تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل , لا يدري هذا المسلم لماذا أسلم و لا يعلم سبباً لذلك سوى الذي حفظه عن أبيه ".
-" لكن الدين لا يكون بهذه الطريقة يا بني , فالدين إيمانٌ بالقلب و العقل , و للعقل مشكلة أخرى عندكم , باتت عندكم فرقة تذمه و تسبه , و تلعن كل من له عقل يستخدمه في التفكير , بحجة أن هذه الأمر لا يجب التفكر فيها , و النتيجة بات عندكم جيلٌ يصدق بأن صورة لشجرة كُتب عليها اسم محمد هي معجزة ربانية , يأخذ هذه الصورة و ينشرها مفتخراً بدينه الذي تظهر معجزاته في مثل هذه الأشياء , هل تصدق بأنه هناك مثل هذه الصورة لكن عوضاً عن محمد كُتب إسم المسيح ؟ , و لو جعلت أحد هؤلاء يرى هذه الصورة لحار و بدأ في مرحلة تخبط , منعوا كُتب الملاحدة و فلسفتهم , فظنوا بأنهم حجبوا بذلك فكرهم عن الناس لكنهم حمقى , فهم لم يحجبوا شيئاً , هم قد منعوا تلك العقول عن التفكير فقط , إذهب و انظر إلى أحد شبابكم و هو يخاطب ملحداً , ترى الملحد الذي لا يؤمن إلا بما هو مادي يستمع لشخصٍ يحدثه عن الروحانيات , هذا الملحد الذي لايؤمن بالقرآن أصلا , يعتقد أحد أبنائكم بأنه سيجعله يعود لإيمانه إذا ما حدثه ببضع أياتٍ عن القرآن ,ثم يقرأ له تفسيراً يبلغ من العمر مئات القرون , مشكلة أخرى قد أصابت معشر المسلمين عامة وليس أهل ليبيا فقط وهي تقديس التفاسير , إن القرآن كتابٌ صالحٌ لكل زمانٍ و مكان لكن التفسير ليس كذلك , لو كان الله يريد لكم أن تقدسوا تفسير عالمٍ ما للقرآن لمئات السنين , لأوحى لمحمد أن يفسره , صحابة محمد منهم من لم يحفظ الا القليل من القرآن لانهم كانوا يتدبرون في معاني كل ما يحفظونه و يتفكرون فيه ......" نظر إلي البشير و قال :" لقد أثقلت عليك بالكلام أليس كذلك فأجبت بالنفي و قد رجوته أن يكمل حديثه لكنه قال :" للأسف يجب أن أنهي كلامي الأن فيجب عليك أنت أن تصحو حتى تلحق بمحاضرتك في الجامعة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق