الأربعاء، 5 أغسطس 2015

هنا بنغازي .....هنا الحضيض


صباح أخر و بداية يوم أخر , و هاهي الشمس قد جاءت  مرة أخرى , لم تكن ليلة ماطرة و لا أذكر بأني حتى نمت في الشارع و لكن استيقظت غارقًا في بركة ليست من المياه و لكنها من العرق , فهي ليلة أخرى تغيب عنها الكهرباء بسب الأعطال و الأحمال , و حتى الرياح امتنعت عن الدخول من الشباك الذي تركته مفتوحاً لأجلها , و لكن يبدو أنها تمنعت و خجلت أن تدخل على رجلٍ نائم .
ارتديت ما وجدته أمامي من ملابس و خرجت أتجول في شوارع بنغازي و التي لم أعد أعرفها و أصبحت أميزها بصعوبة , فمعالم بنغازي من جمادٍ و بشر اخترقها الرصاص و سقطت لترقد على التراب و فيه , فبنغازي تلك الأميرة الجميلة أصابها تشوه كذاك الذي أصاب أهلها , و بعد أن كانت الحضن الذي ضم كل من احتاجه هاهي اليوم تكاد تطرد سكانها , وربما بات يجب أن تُزال جملة (بنغازي ترحب بكم ) إلى جملة كتبها أحد شعراء إيطاليا على باب الجحيم (أيها الداخلون اتركوا ورائكم كل أمل في النجاة).
تجولت فيها تائهاً كسائح أضاع مرشده , فرغم أني من سكان هذه المدينة أباً عن جدٍ عن جدِ جدْ و لكني تهت فيها كما تاهت الطيبة و الرحمة و المودة عن أهلها و تاهت الابتسامة عن شفاههم , و بدلاً منها حل الجشع و الطمع , فانطلقت ذئاب التجار فيها تنهش عظام خراف المواطن المسكين , و أرتفع سعر كل شيء و السبب هو ارتفاع الدولار , حتى إيجار الشقق ارتفع بسبب الدولار , أما عن الأزمات فحدث ولا حرج , فالوقود و الخبز و الغاز بطوابير لو وقفت على خطٍ واحد لدارت حول الكرة الأرضية و السبب مجهول .
فالمسئول ينفي وجود مشكلة و المواطن يقف بالساعات ليحصل على أحدها و تبقى بين المسئول و المواطن حلقة مفقودة , حلقة كونت ثرواتٍ من بيع أسطوانات الغاز مثلاً و باتت تبدل الأسطوانة بخمسين و ستين ديناراً , و إذا ما وصلت للموزعين فإن بائعي الخمر محلي الصنع (القرابا) هم أول من يحصلون عليها , طبعا فهذا باب رزقهم  , ثم إن بإمكان المواطن أن يطبخ طعامه على الأفران الكهربائية و لكن لا يمكن لهؤلاء أن يصنعوا خمرهم بذات الطريقة .
فجأة وقفت أمامي سيارة  و إذا به أحد الأصدقاء يعرض علي الركوب معه , و لأن الحر أعياني و أصوات المولدات قعرت طبلة أذني قررت الركوب معه , و في طريقنا مررنا بطوابير من السيارات تريد الدخول لمحطة الوقود حلم كل إنسان الآن , و كالعادة تجار الحروب متواجدين , فبدل أن تدخل و تقف في هذا الحر يعرض عليك أحدهم 6 لترات من الوقود مقابل 10 دنانير علماً بأن سعرها من المحطة لا يتجاوز دينارا واحدا , و ما هذا؟! مشاجرة بأسلحة نارية داخل محطة تضم لترات من المواد القابلة للاشتعال و البشر بداخلها و السبب بالتأكيد هو أن أحدهم يرد أن يملأ وقوده قبل الأخر .
تبا إلى أين وصلنا ؟ لم تشوه الحرب المباني فقط بل شوهتنا و قبحتنا و كشفت عن حقيقتنا , أصباح حيوانات مفترسة في غابة كل منا يريد أن يأكل قبل الأخر بل و مستعدٌ أن يأكل يقتل الأخر كي يصل قبله , كي يأخذ بضعة أرغفة من الخبز أو يملأ سيارته بالوقود أولاً , و أكثر ما يؤلم هو أولئك النازحون الذين امتص  المؤجرون دمهم و مالهم , فالمؤجر ثعلبٌ ماكر ما أن يجد مستأجراً مستعداً لدفع سعر أعلى سرعان ما سيطردك من البيت حتى لو كانت العائلة مجرد أمٍ و مجموعة من الأطفال اليتامى , كل هذا و نريد الفرج من الله , لقد نسينا بأن الجزاء من جنس العمل .
هنا خرج صوت المذيع من مذياع السيارة و قال : " هنا بنغازي" , فقلت :" لا بنغازي ليست هنا , هنا الجحيم و الفساد الأخلاقي , هنا القاع , هنا بنغازي ..... هنا الحضيض ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق