الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

تهريسة ميلود

صباح يوم الميلود...
لم أشعل قنديلي البارحة .. ولم نعصد اليوم , ليس لأنها بدع , إنما لأنها الغربة , خرجت بالأمس باحثاً عن قنديلٍ أشتريه , درت في بلاد الفرنجة هذه فلم أجد سوى الأشجار في اسواقها , فميلاد المسيح عيسى هو الأخر قريب , و كما يقول المصريون , محمد نبي و عيسى نبي و كل من له نبي يصلي عليه , عدت من بحثي للبيت خائباً حزيناً , فالليلة هي المرة الأولى منذ عشرين عاماً لا يكون لي قنديلٌ أنيره , و كم كنت محتاجاً لذاك القنديل , لعله يضيء لي بعضاً من ليل الغربة المظلم , هي المرة الأولى منذ وصولي التي أفتقد فيها لمة الأهل , اجتمع رفقاء الغربة و إخوة المهجر , علت بيننا الضحكات و النقاشات , و بداخلي علت أصوات الذكريات , تذكرت اجتماع الأهل في بيت الجد , تضيء الشموع و القناديل المكان , و يملئ المكان صوت اللمة و أصوات الأغاني الخارجة من القناديل , مرت كل القناديل التي امتلكتها يوماً أمامي , و استحضرت أذناي كل الأغاني التي خرجت منها , ابتداءً من (طلع البدر علينا) و (يا طيبة) , تذكرت عندما كنا نخرج في الشارع كصبيانٍ صغار يحمل كل منهم قنديله أو (بيلته) , كان أكثرنا فرحا من حصل على ليزر, لم نكن نعرف لتلك الأشياء استخداماً سوى أنها تعطينا الفرحة في تلك الليلة , قبل أن نفقد اهتمامنا بها , فقد كبرنا , من ذا الذي قال بأن الإنسان يكبر على هذه الأشياء ؟! ..... لا أدري , ولكن اكتشفت اليوم مدى حماقتي عندما صدقته , فالمرء لا يكبر على الفرحة , بل هو يصغر أمامها , ارتسمت على شفتاي ابتسامة كنت قد فقدتها منذ أن فقدت طفولتي , قبل أن يقوم الجمع ويرحل و أدخل لغرفتي فأنام , للمرة الأولى أنام باكراً في هذا اليوم , للمرة الأولى منذ أن أبصرت على هذه الدنيا , أنام و بطني خالية من تلك المكرونة التي كانت عشاءً لنا في هذا اليوم , كان لها طعماً مميزاً و وراءها سراً غريباً , ربما يكمن السر في أن كل نساء العائلة تجتمع لتطبخها , كل منهن لها دورٌ فيها , فيكون العشاء مطبوخاً على دفيء العائلة , مُتبلاً بطعم الفرحة .

استيقظت هذا الصباح بمكالمة للأهل في الوطن , الكل يقول لي بأن مكان خالٍ , و أنهم افتقدوني في هذا اليوم , ولكن أنا الذي افتقدتهم , افتقدت صباحاً كنت استيقظ فيه على صوت العالي , صباحٌ كان يبدأ من رؤية الجد و الجدة , ربما لهذا مازلت أشعر بأن صباحي لم يبدأ اليوم بعد , فالجدة في دارها هناك , والجد في دار الحق عند ربه , أنهيت المكالمة و أسندت رأسي إلى حيث كنت أجلس , فلاح أمامي خيال طفلٍ صغيرٍ أخذه أبوه في مثل هذا اليوم منذ 16 عاما تقريبا إلى الزاوية , كانت المرة الأولى التي يذهب فيها ذاك الطفل إلى هناك , دخل فوجد المكان مزدحم بالناس و في المنتصف , جلس رجالٌ بيض الثياب يحمل بعضهم طبلاً و بعضهم بنديراً و يجلس آخرون هكذا , دونما شيء يحملونه , بدأ ضرب البنادير و الطبول , ضربٌ إيقاعي , جعل قلب يخفق مع كل ضربة , و بدء الجالسون يغنون ..
لا لم يكن ذلك غناءً بل كان شيئاً أخر أجمل و أسمى , كان اسم الله و اسم نبيه يُذكر في كل المكان , ولم يعلم إذا ما كان أحدهم رش عطراً في الجو أم أن هذا الذِكر هو الذي فاح عطره , الكل كان سعيداً و مبتهجاً, حتى ذاك الطفل الذي وقف مبهوراً بالعالم الذي اكتشفه , وما زاد فرحته و بهجته تلك الحلوة لذيذة الطعم التي اشتروها من هناك , لم يحفظ هذا الطفل اسم تلك الزاوية يوماً , و لكنه كان يحفظ مكانهاً , كانت بجوار محكمة الشمال , يحتضنها من الخلف شارع عمر المختار و مسجد بن كاطو , و عن شمالها ويمينها كانت المحكمة و أزقة ضيقة خرجت من الشابي تبحث عن مصدر هذا الصوت , الصوت الشجي الذي كان يردد :"
يا أمنة بشراك
سبحان من  أعطاك
بحملك لمحمدٍ
رب السماء هناكِ".

ما زال يذكر كل هذا حتى لو أن سنواتٍ قد مرت على ذهابه هناك أخر مرة , سنواتٌ مرت على خروجه منها حاملاً قطعة حلوة يتلذذ بها و هو يتمشى على الكورنيش , مازال يذكر كل هذا , كان هذا الطفل أنا , أنا الذي توقفت عن الكتابة الآن وجال بخاطري سؤال ..... هل يذكر البحر مشيِّ بجواره أم أن تتابع الأمواج جعله ينسى , هل تذكرين يا زاوية الرفاعية أم أنساكِ صوت القذائف حولك كل تلك الطبول التي قُرعت بداخلك ؟ ... هل تذكر أنت يا اخريبيش تجوالي فيك بعد الخروج من هناك ؟ , هل تذكر عندما كان أبي يُعرفني عليك و على كل أبنائك من شوارع ضيقة مُمتدة في حضنك , أم أنك كتبت هذه الذكريات على حجارة مبنى عتيق ضربه صاروخ فأوقع الحجارة أرضاً و أردى المبنى قتيلاً؟!؟!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق